...

هل المسيحيّة مجرّد فكرٌ؟

 

قارئ الكتاب المقدّس، وبخاصّةً العهد الجديد، لا بدّ له من أن يلاحظ أنّ كتابنا لا يتعاطى بتفاصيل حياة المؤمن اليوميّة، مثل باقي الأديان. لكنّ هذا لا يعني على الإطلاق أنّ حياة المؤمن بكمالها لا تُشمل في الكتاب المقدّس. فالربّ، وهذا أمرٌ مهمٌ في كتابنا المقدّس، يتعاطى مع الإنسان ككائن عاقلٍ مستقلّ، ويتعامل معه كابنٍ وليس كعبدٍ. بكلام آخر، الله يخاطب الإنسان وينتظر منه أن يخاطبه بدوره. فنحن أمام علاقة تفاعليّة مع الله وليس أمام هيمنةٍ. فعندما يخاطبك الله يترك لك مساحةً لتتفاعل  معه. وصحيحٌ أنّ هناك نقاطًا مشتركة تجمع كلّ المؤمنين، إلاّ أنّ هذا لا ينفي على الإطلاق خاصّيّة العلاقة بين الله وكلّ مؤمنٍ على حدةٍ. لهذا لا يتدخّل الكتاب المقدّس في أدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة تاركًا للإنسان مطرحًا حرًّا يعبّر فيه المؤمن عن إيمانه من دون أن يُقيّد.

وقد يعتقد البعض أنّ المسيحيّة هي مجموعة تعاليم سامية أو حتّى مثُل عليا. وربّما يذهب آخرون إلى الاعتقاد بأنّ المسيحيّة تقتصر على الجانب الروحيّ فقط من حياة الإنسان ولا تشمل كلّ حياة المؤمن. من نافل القول، إنّ هذا الفكر يضرب المسيحيّة ويشوّهها. فالرسول بولس يتوجّه إلى المؤمنين بالمسيح بقوله: «أخِيرًا أَيُّهَا الإِخوة كلُّ مَا هو حَقٌّ، كلُّ ما هو جلِيلٌ، كلُّ مَا هو عادلٌ، كلُّ ما هو طاهرٌ، كلُّ مَا هو مُسِرٌّ، كلُّ ما صِيتُهُ حَسَنٌ، إِنْ كانتْ فضيلَةٌ وَإِنْ كان مَدْحٌ، ففي هذه افْتَكِرُوا» (فيليبي ٤: ٨). وقوله «افتكروا» لا تعني على الإطلاق اقتصار الإيمان على الفكر بل على كلّ الحياة. فالرسول يعلّم أيضًا «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكلّ قد صار جديدًا» (٢كورنثوس ٥: ١٧). هذا يعني أنّ حياة المؤمن في المسيح كلّها مشمولة في الإيمان المسيحيّ وليس «فكره» فقط. ويؤكّد لتلميذه تيموثاوس أن «كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْكَلاَمِ، فِي التَّصَرُّفِ، فِي الْمَحَبَّةِ، فِي الرُّوحِ، فِي الإِيمَانِ، فِي الطَّهَارَةِ» (١تيموثاوس ٤: ١٢). كما يقول لتيطس «مُقَدِّمًا نَفْسَكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ قُدْوَةً لِلأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، وَمُقَدِّمًا فِي التَّعْلِيمِ نَقَاوَةً، وَوَقَارًا، وَإِخْلاَصًا (تيطس ٢: ٧).

فالمسيحية بالنسبة للرسول بولس، وهذا نراه جليًّا عبر حياته من بعد اهتدائه إلى المسيح، هي عيشٌ روحيّ جديد بالروح القدس يغيّر الإنسان تغييرًا جذريًّا. والولادة الجديدة بالماء والروح لا تقتصر على الفكر فقط، (هذا يكون انفصامًا في الشخصيّة لو فكّر الإنسان بطريقة ما وتصرّف بطريقة أخرى)، بل  إنّ التغيير، بحسب المسيحيّة، لا يمكن إلاّ أن يشمل كلّ حياة الإنسان، وإلاّ لما دعي هذا التغيير تغييرًا. أليست التوبة هي تغيير نمط التفكير وتاليًا تغيير نمط الحياة؟ وما الفضائل المسيحيّة سوى تأكيد نمط الحياة العملانيّة للحياة الجديدة في المسيح.

ويؤكّد ذلك الرسول يعقوب بقوله: «لأنّه كما أنّ الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان أيضًا بدون أعمال ميت» (يعقوب ٢: ٢٦). ونرى في هذا التشبيه الرائع الجانب العملانيّ للمسيحيّة: إيمان جديد وأعمال جديدة.

وكذلك الرسول بطرس يعلّمنا في رسالته الثانية: «كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ. وَلِهذَا عَيْنِهِ -وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ- قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى، وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً» (بطرس الثانية ١: ٣-٧).

من هنا الفضائل المسيحيّة تعبيرٌعن هذا الجانب العملانيّ للإيمان بالمسيح. والفضيلة هي ليس فقط أن تعلّم بالخير بل أن تعمل به. وإذا لم نتصرّف على هذا الأساس يكون إيماننا مبتورًا لا بل لا يكون إيمانًا حقيقيًّا. فالمسيحية ليست قيمًا سامية ولا مبادئ مثاليّة جميلة فقط، بل هي حياة جديدة واقعيّة بالروح القدس يعيشها الإنسان، ويُظهر عبرها انعكاسَ الربّ في تصرّفاته اليوميّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هل المسيحيّة مجرّد فكرٌ؟