...

النُّور والظلمة

تزخر الخدم الليتورجيّة بصور «النُّور» منذ بدء مواسم الميلاد والظهور الإلهيّ. تلفتنا معادلة «الظلمة» معطوفة على «الموت وظلاله» في اقتباس متّى من إشعياء النبيّ، «الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا والجالسون في بقعة الموت وظلاله أشرق عليهم نُور». بخاصّة، أنّه بينما يتكلّم إشعياء في نصّه الأصليّ، على الشعب «السالك» في الظلمة (٩: ٢). يُبدّل متّى هذا الوصف في اقتباسه، إلى الشعب «الجالس» في الظلمة (٤: ١٦). «يسلك» شعب إشعياء في الظلمة فيما «يجلس» شعب متّى! ذلك بأنّه، عندما يكون الظلام دامسًا، يصير المشي مستحيلًا. المقصود في إنجيل متّى إذًا، هو «الظلمة العميقة»، الحالكة، لدرجة أنّ الشعب لا يقوى سوى على «الجلوس».

كان موسى قد وعد بـ«ظلمة رهيبة» في الضربة التاسعة على مصر. سادت هذه الظلمة الرهيبة على مصر وحدها، بينما كان باقي العالم على ما يرام، إذ كانوا يحرثون حقولهم ويعيشون بشكل طبيعيّ، كما يصف كتاب الحكمة (١٧: ١٩-٢٠).

بعبارة أخرى، كان المصريّون أنفسهم، مظلمين، أحلك من الظلمة التي أحاطت بهم. في الواقع، هم كانوا مصدر الظلمة. إذ يُظلِم الإنسان نتيجة شرور عبادة الأصنام. لم يكن ظلام مصر مجرّد ظلمة الغلاف الجوّيّ، أو احتجاب الشمس. لا، بل كانت هذه الظلمة البدائيّة، قبل الخلق، الظلمة التي سادت قبل أن يَخلق الله بكلمته النُّور. هي ظلمة أولئك الذين خلطوا بين النُّور والظلمة «إن كان النُّور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون» (متّى ٦: ٢٣).

يعاني عالمنا اليوم من «ضربة مصر التاسعة»، ضربة الظلام الدامس. نحن نشهد أمورًا في العالم الآن لم نر مثيلًا لظلمتها من قبل، ولم نكن لنتخيّلها قبل بضع سنوات! أصبحت الظلمة هي المعيار المقبول. نعيش اليوم في عالم من الظلمة. إذ يتعلّق الأمر بظلمة أنفس البشر. السمة الرئيسة لهذه الظلمة هي كونها «نهائيّة». إذ تتبع الضربة التاسعة حتمًا الضربة الأخيرة، العاشرة، أي الموت. الموت، هو ببساطة، الظلمة وقد صارت ظاهرة.

يؤكّد الكتاب على النُّور، نقيض الظلمة، «الظلمة لم تدركه». لا علاقة للظلمة بالخلق، لم تكن جزءًا من الخليقة. الظلمة هي «لا خلق»، عدم، بل «العدم» المطلق. في مواجهة هذه «العدميّة » يقول الله كلمته: «لِيَكُنْ نُور». لأنّ العالم غارق حقًّا في ظلام الضربة التاسعة، فيجب على أبناء النُّور أن يمنطقوا أنفسهم، ويلبسوا ثياب النُّور، ويحملوا عصا الإيمان، ويستعدّوا للمسير، للخروج من «مصر جديدة» بدأت تنبت بجانب «حضارتنا المعاصرة»، وبدأ يجتاحنا سواد ظلمتها. يسيرون خلف مربّين، على صورة موسى، وضعوا بوصلة ربّ الجنود نصب أعينهم، سائرين خلف «عَمُود النَّارِ» (خروج ١٣).

لأنّ «حُبّ الظلمة»، في الواقع، أمر شائع جدًّا. أي الخلط بين الظلمة والنُّور، وعدم القدرة على التمييز بينهما، وعلامة العمى والموت. يستخدم الربّ يسوع كلمة «دينونة» في حديثه مع نيقوديموس، «هذه هي الدينونة: إنّ النُّور قد جاء إلى العالم، وأحبّ الناس الظلمة أكثر من النُّور»، لماذا؟، «لأنّ أعمالهم كانت شريرة. لأنّ كلّ من يعمل السيّئات يبغض النُّور، ولا يأتي إلى النُّور لئلّا توبَّخ أعماله. وأمّا من يفعل الحقّ فيُقبل إلى الُّنور، لكي تظهر أعماله أنّها بالله معمولة» (يوحنّا ٣: ١٩-٢١).

بعد قول الله، «ليَكُنْ نُورٌ»، كان أوّل أمر فعله أنّه «فصَلَ الله بينَ النُّور والظُّلْمة». لا مجال للتأويل، لدينا خيار واضح، بين أمرين. هي عمليّة تمييز. ليس من «مصالحة نهائيّة» للوجود في الكتاب المقدّس. الأبرار يذهبون في اتّجاه، والأشرار في اتّجاه آخر.

لا بدّ من فصل لأنّ لا شركة بين النُّور والظلمة. لا يمكن للمرء أن يكون في شركة مع الله وصديقًا للعالم. يرمز طقس المعموديّة إلى هذا «الفصل». بعد أن يرفض الموعوظ قوى الظلمة، يتحوّل ١٨٠ درجة إلى الشرق (الشمس) ليوافق المسيح المعمِّد. ينفصل الموعوظ عن الظلمة. على المؤمن تفعيل معموديّته، والاستدارة إلى النّور، والفصل، أي بَتر كلّ علاقة قد تتسلّل إلى النفس من الظلمة المحيطة.

بحسب التقليد الربانيّ، كان آدم وحواء يرتديان «أَقْمِصَة من نُور». بعد السقوط، ألبسهم الله «أَقْمِصَة من جِلْد». هذا التمييز، يبرز في مَثَل يسوع عن ثوب العرس. أُلقي الرجل الذي لم يرتد لباس العرس في الظلمة الخارجيّة. لذلك، نحن مدعوّون إلى أن نتسربل، كالقدّيسين «أَقْمِصَة من نُور»، «بزًّا نقيًّا بهيًّا، لأنّ البزّ هو تبرّرات القدّيسين» (رؤيا ١٩: ٨). هذا السربال يُعطى لنا في المعموديّة «امنحني سربالًا منيرًا، يا لابس النُّور مثل الثوب»، علينا المحافظة عليه «غير مدنّس، غير مغلوب» ليوم العرس السماويّ، حتّى لا نطرح «خارج خدر المسيح».

في التجلّي، لاحظ الإنجيليّون النُّور المضيء من ثياب الربّ، إذ «صارت ثيابه بيضاء كالنُّور». يرمز هذا التفصيل إلى تجلّي «الحضارة». الملابس هي، في الأخير، من بين التعبيرات الأساسيّة للحضارة. المسيح لابس، أي ليس وحده، بل هو واحد معنا، هو جزء من التاريخ والحضارة البشريّين. تمثّل ثياب المسيح المتجلّية، سرباله النورانيّ، الحضارة البشريّة مكسوّة بنعمة المسيح. دعوة إلينا، نحن أتباعه، لجلاء كلّ تعبيرات الحضارة البشريّة.

في إنجيل متّى، تبدأ حياة يسوع العامّة في الجليل وتنتهي فيه. هو يسمّيه «جليل الأمم». ذلك الجزء من أرض الميعاد، حيث عاش اليهود والأمم معًا. تنطلق الكنيسة المسيحيّة من «الجبل في الجليل» بحسب إنجيل متّى. هذه السِمة «في الجليل» هي التي صبغت صورة الكنيسة ومثالها. هي المكان الذي هدم فيه الربّ الجدار الفاصل. الكنيسة «كاثوليكية» أي الجامعة، بحسب كمالها. الكنيسة هي إسرائيل الله، الواحدة المقدّسة الجامعة الرسوليّة، الملء، ملء شعب الله.

يسلك المؤمنون ويسيرون خلف النُّور ما دام لهم النُّور لئلّا يدركهم الظلام (يوحنّا ١٢: ٣٥)، حتّى يصلوا إلى صهيون «ارفعي ألحاظك باستدارة وانظري. هوذا أولادك قد تواردوا إليكِ كدراريَ مضاءة من الله. من المغارب والشمال والبحر والمشرق. يسلك الشعب وراء النُّور حتّى يصيروا، هم أنفسهم، نجومًا مضاءة من الله».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النُّور والظلمة