...

من البطن

في القدّاس الإلهيّ وخلال الدخول الصغير (الدورة الصغرى)، وفي آخر الطواف، عندما يصل الكاهن مع الشمّاس أمام الباب الملوكيّ، وبعد أن يُبارك الأوّل الدخول، يرفع الشمّاس كتاب الأناجيل بكلتا يديه ويهتف: «الحكمة فلنستقم». عندها يجيب الجوق مع الشعب: «هلمّوا نسجد ونركع للمسيح، ملكنا وإلهنا. خلّصنا يا ابن الله (ويضيف في الآحاد: يا من قام من بين الأموات). إذ نرتّل لك هلّيلويا». وتتبدّل هذه الصيغة بحسب الموسم الليتورجيّ في أعياد السيّد. وتأتي هذه الحركة الليتورجيّة دلالة على السيّد (الموجود في كتاب الأناجيل الذي يرفعه الشمّاس فوق رأسه ويدعونا إلى السجود له)، على السيّد، الكاهن الأعظم، المزمع أن يدخل أورشليم ليقرّب ذاته ذبيحة من أجل خلاصنا.

في عيد التجسّد الإلهيّ (الميلاد) تتبدّل ترنيمة الدخول هذه (الإيصوذيكون)، لتصير: «من البطن قبلَ كوكب الصبح أنا ولدتُك. حَلَف الربّ ولن يندم أنّك الكاهن إلى الأبد على رتبة ملْكيصادق. (خلّصنا يا ابنَ الله، يا من وُلِد من البتول…)». وهذه الترنيمة مستلّة بالكامل من المزمور ١٠٩.

من بين مجمل نصوص كتاب المزامير، لا نجد آية تتمتّع بالقيمة التي يعطيها العهد الجديد لمطلع المزمور ١٠٩: «قال الربّ لربّي اجلِسْ عن يميني حتّى أجعل أعداءك موطئًا لقدميك». ففي التقاليد التي تعكسها الأناجيل الإزائيّة، على سبيل المثال، يتذكّر المسيحيّون أنّ السيّد المسيح اقتبس هذه الآية، في نقاشه مع بعض المناوئين له من الربّانيّين اليهود، في إطار الإجابة عن السؤال الحاسم في كرازته العظيمة: «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟» (متّى ٢٢: ٤٢؛ مرقس ١٢: ٣٦؛ لوقا ٢٠: ٤٢). عبر هذه الكلمات القليلة «قال الربّ لربّي»، تعلّم المسيحيّون أنّ يسوع، ليس فقط من ذرّيّة داود، بل من ذرّيّة ربّ داود الأزليّ. هو ليس ابن داود فقط بل ابن الله أيضًا.

بعد الكلام على هويّة المسيح بشكل سرّيّ، يكمل مطلع المزمور ذاته ليعبّر عن انتصار المسيح وتعريشه عبر تأكيده: «اجلِسْ عن يميني». هذه الكلمات المهيبة عينها، اقتبسها سفر أعمال الرسل في عظة الكنيسة الأولى عند الساعة الثالثة (٩ صباحًا) من صبيحة يوم العنصرة (أعمال ٢: ٣٤)، لتصير هذه العظة، من الأسُس المهمّة في لاهوت الخلاص والخريستولوجيا (لاهوت شخص المسيح)، المُستعملة في العهد الجديد.

تتلخّص إذًا، في هذا السطر الفريد من المزمور، الأسس العقائديّة لعلاقتنا بالله – هويّة يسوع المسيح الأبديّة، وغلبتهُ على الخطيئة والموت، وتمجيده من عن يمين الله: «الله،… كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة في ابنه، الذي…، بعدما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي» (عبرانيّين ١: ١-٣).

يمضي المزمور قُدمًا ليكشف مصير من قد يتصدّون لنصر المسيح: «…حتّى أضع أعداءك موطئًا لقدميك. يرسل الربّ قضيب عزّك من صهيون. تسلّط في وسط أعدائك». مجدّدًا، هذا الكلمات القليلة تُستعمل في العهد الجديد لتفسير التاريخ المسيحيّ والزمن الأخرويّ.

«من البطن قبل كوكب الصبح أنا ولدتُك» – تشير إلى ولادة المسيح الأزليّة قبل كلّ الدهور، وتؤكّد طبيعة الرّب يسوع المسيح الإلهيّة، الذي هو مع الآب واحد في الجوهر.

قبل كوكب الصبح – قبل الزمان (قبل الفجر)، أي منذ الأزل كما ترد الصيغة في دستور الإيمان: «وبربّ واحدٍ يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كلّ الدهور».

حَلَف الربّ ولن يندم – أي أقسم الربّ بذاته «فلذلك إذ أراد الله أن يُظهر أكثر كثيرًا لوَرَثة الموعد عدم تغيّر قضائه، توسّط بقَسَم» (عبرانيّين ٦: ١٧).

ذِكر صهيون يوقظ ذكريات تاريخ هذه المدينة القديمة، والمعروفة أيضًا باسم «شاليم» أو «أورشليم»، وصورة أوّل ذِكر موثّق للملوك فيها: «ملكيصادق». الذي لم يكن مجرّد ملك على أورشليم، ولكن أيضًا: «كاهن الله العليّ» (تكوين ١٤: ١٨). كهنوت ملكيصادق السرّيّ هذا يشكّل المادّة التي يستعملها المزمور ١٠٩ في كلامه على كهنوت يسوع: «إنّك الكاهن إلى الأبد على رتبة مَلْكيصادق».

لا يتفوّق أيّ شرح لهذه الآية على الغنى اللاهوتيّ الذي تقدّمه لنا الرسالة إلى العبرانيّين حول صورة كهنوت ملكيصادق الظلّيّة عن كهنوت المسيح الأبديّ، مركّزة على تمجيد الربّ يسوع أعلى من السماوات، عن يمين عرش العظمة، شفيعًا دائمًا لنا أمام العرش الإلهيّ، الوسيط الواحد بين الله والإنسان: «لأنّ ملكي صادق هذا، ملك ساليم، كاهن الله العليّ… المترجم أوّلاً «ملك البرّ» ثمّ أيضًا «ملك ساليم» أي ملك السلام. بلا أب، بلا أمّ، بلا نسب. لا بداءة أيّام له ولا نهاية حياة. بل هو مشبّه بابن الله. هذا يبقى كاهنًا إلى الأبد… وذلك أكثر وضوحًا أيضًا إن كان على شبه ملكي صادق يقوم كاهن آخر. قد صار ليس بحسب ناموس وصيّة جسديّة، بل بحسب قوّة حياة لا تزول. لأّنّه يشهد أنّك: «كاهن إِلى الأبد على رتبة ملْكي صادق»… وأمّا هذا فمن أجل أنّه يبقى إلى الأبد، له كهنوت لا يزول. فمن ثمّ يقدر على أن يخلّص أيضًا إلى التمام الذين يتقدّمون به إلى الله، إذ هو حيّ في كلّ حين ليشفع فيهم» (عبرانيّين ٧: ١-٣؛ ١٥-١٧؛ ٢٤-٢٥).

على رتبة ملكيصادق يكون المسيح ملك البرّ والسلام، الكاهن الأعظم إذ ليس لكهنوته انقضاء، إذ هو حيّ إلى الأبد ليشفع فينا في كلّ حين. فيه تتجدّد المواعيد

التي عاهد الله بها الآباء في العهد القديم وتتحقّق بتجسّده كلّ أعمال الخلاص اللاحقة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من البطن