...

حُسن الإعتراف أمام الأتراب

يُظهرُ لنا هذا اليوم المبارك القدّيسَ إميليانويس المعترف أسقف كيزيكوس (في آسيا الصّغرى) كأحد القدّيسين المجاهدين، الذين لم يهابوا الشدّة ولا النّفي ولا التّعذيب في مسيرة إعترافهم بالإيمان بالرَّب يسوع وكنيسته، متمّمًا بذلك قول الرّسول بولس لتيموثاوس: «وَأمّا أنتَ فاصحُ في كلِّ شَيءٍ، احتمِل المشقَّات، اعمَل عَمَلَ المبشِّر، وتَمِّم خدمتَك» (٢تيموثاوس ٤: ٥).

نقرأ في سيرة حياته المتواضعة أنّه كان رجلًا مملوءً محبّةً ولطافةً، ما أهّله لأن يكون من المتصدّين الكبار ضدّ كلّ من يحاول أن يخالف الكنيسة وإيمانها، فأضحى مدافعًا عن الإيقونات المقدّسة وملهمًا للشعب المؤمن بثباته وحسن سيرته وإيمانه غير المتزعزع. لهذا السّبب لقّبته الكنيسة بـ»المعترف» لأنّه كان شاهدًا للكلمة الإلهيّة، وهو حيٌّ، أمام السلطات الزمنيّة في عصره غير هيّابٍ تيّارات البدع التي كانت سائدة والتي كان لها النّفوذ والقدرة أن تنفيه وتعذّبه.

المعترف إذًا، هو الشاهد بآلامه وجهاده. هو مستعدٌ دومًا أن يبذل نفسه ويقدّمها لله، الذي بتدبيره يشاء أن يقف عند حدود التعذيب أو النفي أو ما شاكل، فيصير شهيدَ دمٍ بالنيّة وشهيد معاناة، في النفس والجسد، بالوضع. ولذلك، الإعتراف بمفهومه الإيمانيّ يتخطّى مجرَّدَ إعلان ما نَعلَم إلى عيش ما تعلّمناه وآمنّا به ناقلين إيّاه للآخرين بشتّى وسائل المحبّة المتاحة لنا متمّمين قول الرَّب: «من يعمَل ويعلِّم، هذا يُدعى عظيمًا في ملكوتِ السَّماوات» (متّى ٥: ١٩).

الهدف الأساسيّ إذًا، والبوصلة التي علينا إتّباعها والتي ترشدنا إلى ميناء الخلاص، هي رغبتنا في أن ندعى عظماء في ملكوت السّماوات. وهذا الأمر يتطلّب منّا جهدًا كبيرًا لأنّنا نعيش في زمنٍ هو بأمسّ الحاجة إلى فكر المسيح ونوره. لقد كثرت شجوننا واهتماماتنا ومشاغلنا، فالجوّ السّائد في مجتمعاتنا يدعونا إلى القلق ممّا سيحدث في المستقبل، القريب أو البعيد، وقد نسينا قول الرَّب لنا: «لا تهتمّوا للغد، لأنَّ الغد يهتمُّ بما لنفسه» (متّى ٦: ٣٤). والملفت أنّه قبل هذه الآية يحدّد بنفسه البوصلة الصّحيحة التي تجعلنا نقتنع ألّا نهتمّ للغد فيقول: «أطلبوا أوّلًا ملكوت الله وبرَّه» (متّى ٦: ٣٣). إن وجّهنا اهتمامنا نحو الملكوت، الذي وعدنا به الرَّب يسوع، نكون قد وضعنا أرجلنا في طريقه، وتاليًا يصبح إعترافنا أمام أترابنا وكلّ من حولنا إعترافًا ملكوتيًّا لا غشّ فيه ولا رياء. لأنّنا نزعنا عنّا الإهتمامات الثانويّة وحدّدنا أولويّاتنا نحو الأهمّ، فلا تعد تهمّنا الشّدائد والصّعاب، الحروب والقلاقل، الجوع والعوز، الأمراض والأوبئة، ما يعنينا فقط هو أن نعيش «بسلامٍ وتوبة».

هكذا عاش القدّيسون وبينهم القدّيس إميليانوس المعترف. لم يهتم للغد وحاجاته بل اهتمَّ للحياة الفضلى مع المسيح سيّده وإلهه. وبما أنّه قد درّب نفسه على حياة الفضيلة والتّوبة والتّواضع، أضحى اعترافه بالمسيح أكثر اقناعًا إذ استخدم لغة المحبّة الصّادقة، فلم تسيطر عليه أهواءه بل نعمة الرّوح القدس التي تكمّل النّاقصين وتشفي المرضى وتهدي الضّالين وتحرّر أسرى الشّيطان.

ونحن بدورنا كمسيحيّين من قال لنا الرَّب يسوع: «أنتم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم منَ العالم» (يوحنّا ١٥: ١٩)، علينا أن نتغرّب عن العالم وأهوائه ومشاكله ونلتصق بالمسيح منبع الفرح والنّور، ونضع في يديه حياتنا كلّها، موجّهين أنظارنا نحو الملكوت. وبذلك نستعيد الرّجاء المعطى لنا مجّانًا

بقيامة الرّب يسوع ونحفظ وديعة الإيمان بالتّوبة ونعيشها وننقلها لأترابنا، فنعود لنلهب شعلة الرّوح القدس التي أُضيئت بالمعمودية، فتظهر أعمال الله فينا ونمجّد أبانا الّذي في السماوات.

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حُسن الإعتراف أمام الأتراب