...

القدّيسة حنّة أمّ والدة الإله

لا نجد في الكتب المقدّسة القانونيّة ذِكْرًا للقدّيسَين الصِدّيقين يواكيم وحنّة جدَّي المسيح الإله، فمعلوماتنا بشأنهما مستقاة بشكلٍ خاصّ من إنجيل يعقوب التمهيديّ. هذا الإنجيل هو من الأناجيل المنحولة وهي الأسفار التي لم تعتمدها الكنيسة كالأناجيل الأربعة المعروفة لدينا، بل صنّفتها كأناجيل منحولة/أبوكريفيّة. وتعني كلمة «أبوكريفا» في الأصل «خفيّ، غامض، مبهم». أُطلقت هذه اللفظة ليس فقط على الأناجيل التي رفضتها الكنيسة، بل أيضًا على بعض الكتابات غير القانونيّة في العهد القديم، وأُطلقت أيضًا على بعض الكتب اليهوديّة والمسيحيّة، والتي كُتبت بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الأوّل الميلاديّ. الكنيسة المقدّسة إذًا، وإن رفضت الكتب المنحولة، إلاّ أنّها أخذت ببعض ما ورد فيها.

إنجيل يعقوب الأوّليّ أو التمهيديّ، ألُّف في منتصف القرن الثاني، ويذكر العلماء أنّ سبب وصفه بالأوّليّ أو التمهيديّ يرجع إلى أنّه يمهّد لقصّة المسيح، إذ إنّه يروي أحداثًا سابقة لروايات الأناجيل القانونيّة، وفي الوقت عينه يحاول كاتبه سدَّ الفراغ في الأناجيل المعترف بها، وذلك بذكر أحداث مهمّة في حياة يسوع وأمّه لم تُذكر في الأناجيل القانونيّة. ويقدَّم الإنجيل على أنّه من تأليف «يعقوب أخي الربّ»: «أنا يعقوب، الذي كتب هذه القصّة…»، إنّه الرسول يعقوب الصغير، أخو يسوع، أي نسيبه، بحسب الأناجيل القانونيّة. ويظهره إنجيلُ يعقوب التمهيديّ أنّه وُلِدَ من زواج سابقٍ ليوسف.

نقرأ في هذا الإنجيل أنّ يواكيم كان غنيًّا جدًّا وكان يقدَّم لله قرابين مضاعفة، قائلًا في قلبه: «لتكن خيراتي للشعب كلّه، من أجل مغفرة خطاياي لدى الله، ليُشفق الربّ عليَّ». وحلَّ عيد الربّ الكبير وكان أبناء إسرائيل يأتون بقرابينهم، فاحتجَّ رأوبين على يواكيم، قائلًا: «لا يحقّ لك أن تقدّم قربانك، لأنّك لم تنجب ذرّيّة في إسرائيل». فاستولى على يواكيم حزن عظيم واعتزل في البرّيّة صائمًا أربعين يومًا وأربعين ليلة وقائلًا في قلبه: «لن أتناول طعامًا ولا شرابًا، وصلاتي ستكون طعامي الوحيد». وكانت امرأته حنّة تعاني حزنًا مضاعفًا، وكانت فريسة ألم مضاعف قائلة: «إنّني أرثي لترمّلي وعقمي». فقالت لها يهوديت خادمتها: «إلى متى تستسلمين للحزن؟ ليس مسموحًا لك بالبكاء، لأنّنا في العيد الكبير». ونزلت حنّة إلى الحديقة لتتنزَّه، وإذ رأت شجرة الغار، جلست تحتها، ووجَّهت صلواتها إلى الربّ، قائلة: «يا إله آبائي، باركني واستجبْ صلاتي، كما باركت أحشاء سارة ورزقتها إسحق ابنًا». وإذا بملاك الربّ ظهر لها وقال: «يا حنّة، إنّ الله سمع صلاتك، سوف تحبلين وتلدين، ونسلك يُحكى عنه في العالم كلّه». فقالت حنّة: «حيٌّ هو الربّ إلهي، سواء كان من ألده ذكرًا أم أنثى فسوف أُقدّمه للربّ، وسوف يكرِّس حياته للخدمة الإلهيّة». وإذا بملاكَين أتيا، قائلين لها: «هوذا، يواكيم، زوجك، يصل مع قطعانه». ونزل ملاك الربّ نحوه، قائلًا: «يا يواكيم، يا يواكيم، إنّ الله سمع صلاتك، وستحبل امرأتك حنّة». وهذا ما حصل بعد لقائهما.

واليوم إذ نعيّد لرقاد القدّيسة حنّة، والتي يعني اسمها «نعمة»، سنتوقّف عند أمرين من أمور كثيرة ذكرها هذا الإنجيل عنها، علّهما يكونان زادًا لنا في هذه الأيّام الصعبة: قَوْل يهوديت لحنّة: «إلى متى تستسلمين للحزن؟ ليس مسموحًا لك بالبكاء، لأنّنا في العيد الكبير».

فحنّة استسلمت للحزن أمام المشكلة التي واجهتها. وكم من مرّة نتصرّف كحنّة أمام مشاكلنا، نستسلم للحزن، لليأس، للإحباط. مشكلتنا الحقيقيّة هي ما نفعله بمشاكلنا. نحاول حلّها بقوانا الشخصيّة، فنجد أنفسنا متعبين طوال الوقت. ننسى أنّ «فضل القوّة للّه لا منّا»، كما يعلّمنا الرسول بولس الذي يضيف قائلًا: «متضايقون في كلّ شيء ولكن غير منسحقين، حائرون ولكن غير يائسين، مضطهدون ولكن غير متروكين، مطروحون ولكن غير هالكين». نحن لا نُسحق وقت الضيق، ولا نيأس وقت الحيرة، ولا نُترك وقت الاضطهاد، ولا نهلك وقت الصراع إن ألقينا رجاءنا على الله واستندنا إلى قوّته التي تجلّت بالقيامة من بين الأموات.

ألم تقل يهوديت لحنّة إنّه ليس مسموحًا لها بالبكاء لأنّهم في العيد الكبير؟ العيد المقصود هنا هو على الأرجح عيد المظالّ اليهوديّ الذي هدفه تذكير الشعب بالفترة التي قضاها آباؤهم في مظالّ/ خيام في الصحراء بعد خروجهم من مصر. والصحراء نطاق الموت، غير أنّ الله حفظهم فيها وأحياهم. فإذا كان غير مسموحٍ لحنّة أن تحزن لأنّهم في العيد الكبير، فكم بالحريّ نحن المؤمنين بالقيامة، بالفصح، العيد الكبير، عيد الأعياد وموسم المواسم؟ فمن الفصح، من قيامة السيّد، نستمدّ قوّتنا لئلّا نحزن ونُسحق ونيأس ونحبط ونهلك رغم كلّ المشاكل والصعوبات التي تواجهنا. فبغضّ النظر عمّا تحمله لنا الحياة، يأتينا الله دائمًا بالرجاء. والرجاء مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بالصبر المبنيّ على الإيمان والثقة بالله. هذا ما يدعونا إليه الرسول بولس في رسالته إلى أهل روميه قائلًا: «فرحين في الرجاء، صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة». ونرى حنّة تعود وتصلّي إلى الله بأشدّ حرارة ملقيةً همّها عليه. «فـانتظرِ الربّ، ليتشدّدْ ولْيتشجّعْ قلبُك، انتظرِ الربّ» (مزمور٢٧: ١٤).

قَولُ حنّة: «حيٌّ هو الربّ إلهي، سواء كان من ألده ذكرًا أم أنثى فسوف أُقدّمه للربّ، وسوف يكرّس حياته للخدمة الإلهيّة».

فرغم شوق حنّة لتصبح أمًّا، وعدت بتقديم من تلده للربّ. وعدت فوَفَت. وكم من مرّة نَعِد يسوع بأنّنا سنقدّم له ذواتنا، سنكرّس له حياتنا، سنتبعه، سنحفظ وصاياه، سنتمّم مشيئته، ولكنّنا نتعثّر: «لقد وعدتك رِبواتٍ من المرّات أنا الشقيّ يا يسوع بالتوبة، لكنّي أخلفت الوعد أنا المنكود حظّه. لذلك أهتف إليك يا يسوع قائلًا: أضِء على نفسي المصرّة على عدم الشعور يا يسوع المسيح إله آبائنا» (من قانون التضرّع إلى ربّنا يسوع المسيح).

فلنسأل الله إذًا أن ينهضنا من سقطاتنا ويُمسك بأيدينا ويقودنا في موكب نصرته، حتّى يُمسي التزامنا بيسوع شهادةً لمن حولنا حتّى يؤمنوا هم أيضًا به. فلنطلبْ إليه أن نكون عبيدًا أمناء يحفظون الوديعة حتّى النهاية. فلنرجُ أن نكون بالحقيقة ملحًا للأرض ونورًا للعالم. فلنصلِّ لكي يشعر العالم حين ينظر إلينا أنّه مفتونٌ بيسوع، أنّه مسحورٌ بما يمكن أن يفعله في حياة الإنسان. آمين.

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القدّيسة حنّة أمّ والدة الإله