...

كلمة الراعي وجه الميداليّة وقفاها في الشعانين

احتفاليّة كبيرة تتجلّى أمامنا في أحد الشعانين. فقد انجذبت الجموع لمرأى لعازر الذي أقامه يسوع من بين الأموات من بعد أن أنتن. ثمّ انجذبت هذه الجموع لمرأى يسوع داخلًا إلى أورشليم، فأعدّوا له دخول الظافرين. انبهار الجموع كان سطحيًّا، إذ لا يخفى الأمر على مَن عينه تفحص القلوب، سيّما وأنّه سبق وأعدّ التلاميذ إلى ما سيحلّ به في أورشليم.

لقد قلّدت الجموع ميداليّة الملك لـمَن استحقّها، إذ أقام ميتًا من القبر (يوحنّا ١٢: ١٣، ١٧-١٨). نعم، توّجت الجموعُ مَلِكَها ولكن إلى حين، فمُلْكه سيكون مرفوضًا منهم إذ لا مكان له في قلوبهم. الكلّ سيخذله، تقريبًا، عندما ستحين ساعة الامتحان، وهي حاصلة بعد أيّام قليلة، إذ كانت تفاصيل المؤامرة تُحاك في ظلمة النفوس التي كانت تتحيّن الفرصة للتخلّص من مسيح الربّ (يوحنّا ١٢: ١٠).

لم تغشّ المظاهرُ الاحتفاليّة في دخول أورشليم فاتحَها الوديع ولا عتّمت على محبّته للجميع، إنّما زادته تصميمًا على المضيّ إلى الأمام، إلى مُلكه ليستلمه وإلى عرشه ليتربّع عليه. والحقّ يُقال إنّه حمل عرشه بيدَيه ونصبه وارتفع عليه ليتسنّى لنا أن نراه، عبر الأجيال، من بعيد وعن قريب على السواء. عرش الملك كان الصليب، ودستوره الحقّ وبذل الذات، وشرعته الصفح عن صالبيه، ومواطنو ملكوته لصّ مصلوب عن يمينه ومَن سيؤمنون به مصلوبًا عنّا ومخلِّصًا لنا، أمّا جنوده المخلِصون فكانت طليعتهم زمرة من الصيّادين والعشّارين صارت بحقّ جماعته الرسوليّة.

صورة هذا الـمَلك وهذا الملكوت لا تتّفق وصورة الجبروت الأرضيّة التي تلهب الألباب، والباحثة عن المجد والسلطان وتبوّء المكانة الرفيعة. إذًا المعركة على قدم وساق بين هذه الصورة الدفينة في نفوسنا والحقيقة التي أظهرها يسوع باختياره تجسيد إرادة الآب من نحونا. استطاع مثال يسوع، بدخوله الوديع إلى أورشليم وصلبه خارج أسوارها، أن يحقّق المعجزات في التاريخ البشريّ، جيلًا بعد جيل، وذلك بفضل كلّ الذين ساروا في أثره على حلبة صراعات الإنسان المختلفة، فكانت قافلة شهداء القرون الأولى والقرون الحديثة خير مثال على فاعليّة وداعة المسيح بإزاء تشامخ الأمم، وعلى فاعليّة إعلان الحقّ بإزاء وثنيّة النفوس، وعلى فاعليّة المحبّة الباذلة بإزاء الأنانيّة المتعدّدة الأشكال.

وبعد قافلة الشهداء تتابعت قافلة ملك السلام بقافلة الأبرار الصدّيقين، ثمّ المعترفين الذين عانوا بأجسادهم العذابات الرهيبة بالإضافة إلى معلّمي المسكونة الذين أضاؤوا على المسكونة بنور الإيمان الحقيقيّ، كذلك الأطبّاء العديمي الفضّة الذين سكبوا مرهم حسن العبادة على الأجساد المريضة فكانوا يمنحونها الشفاء. وتستمرّ القافلة حتّى يومنا هذا، قافلة الذين يدهنون قدمَي يسوع بدموع القلب ويمسحونها على غرار مريم التي دهنت قدَمي يسوع (يوحنّا ١٢: ٣)، وتستمرّ أيضًا بأولئك الذين يهتمّون بالفقراء الذين تضامن معهم يسوع، والذين هم معنا في كلّ حين (يوحنّا ١٢: ٨).

هؤلاء جميعًا يشكّلون القافلة التي انحازت إلى قضيّة يسوع بيننا وقضيّة الإنسان المخلوق على صورته، وجعلوا ملكوته مثبّتًا في أجسادهم على أرضنا هنا، وبينما هم راتعون في السماء يسبّحون الربّ على تدبيره الخلاصيّ. فمن أين لأولئك المحتشدين في أورشليم يومها أن يروا هذا المشهد الذي وصل إلينا عبر التاريخ؟ حقّهم علينا إذا تصرّفنا مثلهم، فنرتاع ساعتها لقلّة بصيرتنا وإدراكنا لمشيئة الله وكيفيّة إخراجه لتدبيره الخلاصيّ على صعيدنا الشخصيّ، وعلى صعيدنا كجماعة ملتئمة حول مائدته المقدّسة، وأخيرًا على صعيدنا العامّ، أي البشريّة التي هي حقل رعاية الربّ وعنايته حتّى نهاية الأزمنة.

كيف سنصعد إلى الفصح مع يسوع؟ هل سنكون لعازر الذي أقامه يسوع من بين الأموات، أم أخته مرتا التي تقوم بخدمته، أو مريم أختها التي تدهنه بالطيب؟ أم سنكون يهوذا، سارق الصندوق الذي يدافع، زورًا، عن الفقراء والعازم على أن يسلّم يسوع؟ هل سنهلّل يومًا مثل الجموع ليسوع، لنصلبه بعدها العمر كلّه؟ أَلا أعطِنا فهمًا يا ربّ على غرار التلاميذ الذين لم يفهموا حينها مجرى الأحداث لكنّهم فهموها بعد أن تمجّدتَ (يوحنّا ١٢: ١٦)!

+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: فيليبّي ٤: ٤-٩

يا إخوة افرحوا في الربّ كلّ حين وأقول أيضًا افرحوا، وليَظهَر حِلْمُكم لجميع الناس فإنّ الربّ قريب. لا تهتمّوا البتّة، بل في كلّ شيء فلتكن طلباتُكم معلومة لدى الله بالصلاة والتضرّع مع الشكر. وليحفظ سلامُ الله الذي يفوق كلّ عقل قلوبَكم وبصائرَكم في يسوع المسيح. وبعد أيّها الإخوة مهما يكن من حقّ، ومهما يكن من عفاف، ومهما يكن من عدل، ومهما يكن من طهارة، ومهما يكن من صفة محبّبة، ومهما يكن من حُسْن صيت، إن تكن فضيلة، وإن يكن مَدْح، ففي هذه افتكروا. وما تعلّمتموه وتسلّمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيّ فبهذا اعملوا. وإله السلام يكون معكم.

 

الإنجيل: يوحنّا ١٢: ١-١٨

قبل الفصح بستّة أيّام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الذي مات فأقامه يسوع من بين الأموات. فصنعوا له هناك عشاء، وكانت مرتا تخدم وكان لعازر أحد المتّكئين معه. أمّا مريم فأخذت رطل طيب من ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها، فامتلأ البيت من رائحة الطيب. فقال أحد تلاميذه، يهوذا بن سمعان الإسخريوطيّ، الذي كان مزمعًا أن يُسْلمه: لمَ لم يُبَعْ هذا الطيب بثلاث مئة دينار ويُعطَ للمساكين؟ وإنّما قال هذا لا اهتمامًا منه بالمساكين بل لأنّه كان سارقًا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يُلقى فيه. فقال يسوع: دعها، إنّما حفظَتْه ليوم دفني. فإنّ المساكين هم عندكم في كلّ حين، وأمّا أنا فلستُ عندكم في كلّ حين. وعلم جمع كثير من اليهود أنّ يسوع هناك فجاؤوا، لا من أجل يسوع فقط، بل لينظروا أيضًا لعازر الذي أقامه من بين الأموات. فأْتَمَرَ رؤساء الكهنة أن يقتلوا لعازر أيضًا، لأنّ كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون فيؤمنون بيسوع. وفي الغد لمّا سمع الجمع الكثير الذين جاؤوا إلى العيد بأنّ يسوع آتٍ إلى أورشليم أخذوا سعف النخل وخرجوا للقائه وهم يصرخون قائلين: هوشعنا، مبارك الآتي باسم الربِّ، ملكُ اسرائيل. وإنّ يسوع وجد جحشًا فركبه كما هو مكتوب: لا تخافي يا ابنة صهيون، ها إنّ مَلِكك يأتيك راكبًا على جحش ابن أتان. وهذه الأشياء لم يـفهـمها تلاميذه أوّلًا، ولكن، لمّا مُجّد يسوع، حينئذ تذكّروا أنّ هذه إنّما كُتبت عنه، وأنّهم عملوها له. وكان الجمع الذين كانوا معه حين نادى لعازر من القبر وأقامه من بين الأموات يشهدون له. ومن أجل هذا استقبله الجـمع لأنّهم سمعوا بأنّه قد صنع هذه الآية.

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

وجه الميداليّة وقفاها في الشعانين