...

تحقيق شركة المحبّة: من استهلاك العالم إلى التزامه وتقديسه

ندنو في هذه الفترة المباركة من هذا السرّ العظيم، سرّ التجسّد الإلهيّ واتّخاذ ابن الله، الكلمة الأزليّ، الطبيعةَ البشريّ والتزامه بها بكلّيّتها. يشكّل هذا العيد في ما يحمله من معانٍ لاهوتيّة مدماكًا أساسيًّا لتقويم واقع حياتنا الكنسيّة، كأشخاصٍ وكجماعة، في ما يخصّ التزامنا قضايا مجتمعنا، واحتضاننا واقع الإنسان المعاصر في ظلّ ما تمرّ به بلادنا من أزمات. يدفعنا هذا العيد اليوم كمؤمنين إلى أن نلتزم قضيّة الإنسان المظلوم والمتألّم في وطننا تمامًا كما التزم يسوع طبيعتنا البشريّة بكلّيّتها متّخذًا إيّاها في ذاته، بعد أن كانت مقيّدة ومستعبدة للخطيئة. هكذا أعطي الإنسان أن يستعيد شركة المحبّة بينه وبين الله والإنسان.

ما الذي يعيقنا اليوم عن تحقيق شركة المحبّة هذه في مجتمعنا؟ تواجه المسيحيّة تحدّيًا كبيرًا في هذا الزمن وهو مجتمع الاستهلاك. يجسّد هذا المجتمع فكر العالم، فيعمل على تعزيز روح الفرديّة والمادّيّة واللامبالاة وعلى إشباع الرغبات وتثبيت الأنا. فيستعبد إرادة الإنسان ويؤرقها ويكبّلها بحاجات تنأى عن الحاجات الأساسيّة في حياته. يخدع هذا المجتمع الإنسان بفكرة أنّ أساسَ وجوده وغايتَه هو السعادة والرفاهية من طريق الاقتناء والتملّك. لعلّ عيد الميلاد هو النموذج الأبرز لمدى تأثير هذا المجتمع على الإنسان المسيحيّ، فقد تحوّل الاحتفال بهذا العيد الخلاصيّ إلى موسم استهلاكيّ فرضه هذا المجتمع القائم على ثقافة الاستهلاك الكثير والربح المادّيّ للشركات المصنّعة. هذا النوع من الاحتفال يناقض جوهريًّا المعنى الأساس لهذا العيد وذلك بأنّه يعزل الإنسان ويغرّبه عن الله والآخر فيعيقه عن تحقيق شركة المحبّة.

كيف نواجه إغراء هذا المجتمع ونحقّق شركة المحبّة؟ فيما يجسّد المجتمعُ الاستهلاكيُ فكرَ العالم، يجسّد النسكُ المسيحيّ فكرَ المسيح. قد تكون لفظة «نسك» ثقيلة على مسامعنا في هذا الزمن المعاصر لما يزرعه العالم في عقولنا من أفكار مغلوطة. فالنسك ليس خروجًا من العالم أو انكفاءً عن الحياة من أجل العيش في عزلة مع الله، إنّما هو التزام لكلّ من نال سرّ المعموديّة في عيش حياته مع الله ومع خليقته، بحيث تصبح الخيرات المادّيّة التي وهبنا إيّاها الله أداةً لتقديس النفس وتجديد العالم، لا حاجزًا يكسر شركتنا مع الله وأخينا الإنسان.

في المفهوم المسيحيّ النسك هو بداءة مسيرة تحرّر الإنسان، هو استعادة حرّيّته التي قيّدتها الخطيئة واستعبدتها. هذا النهج النسكيّ يرفع الإنسان إلى مستوى الحرّيّة الحقيقيّة والانعتاق الكامل من كلّ ما يلهينا عن الله وأخينا الإنسان، حيث تنعتق النفس الإنسانيّة من كلّ الحاجات المصطنعة الوهميّة التي يروّج لها المجتمع المعاصر، المبنيّ على ثقافة الاستهلاك والكسب، حيث تسيطر الأنا وتغيب شركة المحبّة التي أوصى بها الإنجيل.

هكذا، بالنسك، يحقّق الإنسان شركة المحبّة هذه بينه وبين الله والإنسان، إذ يفتح قلبه للذين يعيشون أوضاع الألم والمعاناة فيساهم في مداواة هذه الجراح وتضميدها. النسك إذًا مشاركة في حياة الخالق والخليقة، هو طريق التزام محبّة الله والآخر في هذا العالم، فرديًّا وجماعيًّا، في كلّ جوانب الحياة البشريّة، فيغدو الإنسان نفسه خلّاقًا عبر مشاركته الله في متابعة عمله وتجديد هذا الكون.

هكذا إذًا، نحن مدعوّون، إذ نتهيّأ لسكنى المسيح فينا، إلى أن نتحرّر من أصنام مجتمع الاستهلاك التي تستعبدنا لكي نشارك المسيح في الألوهة التي وهبنا إيّاها في سرّ تجسّده، ولندخل في شركة محبّة فاعلة تلتزم شؤون الأرض وبناء مجتمع أفضل، فيصير هذا العالم مكانًا ملكوتيًّا لعيش علاقات المحبّة ولتمجيد الله.

 

 

 

Raiati Archives