...

قدّيسونا ومجتمع الاستهلاك

 

 

في منتصف صوم الميلاد المجيد تحتفل الكنيسة بتذكار القدّيسة بربارة العظيمة في الشهيدات (4 كانون الأوّل)، والقدّيس نيقولاوس رئيس أساقفة ميرا العجائبيّ (6 كانون الأوّل). سوف ننتهز هذه المناسبات المباركة للإضاءة على التشويه الذي بات يُهيمن على أنماط احتفالاتنا الدينيّة، من حيث سيطرة الذهنيّة الاستهلاكيّة على المعاني العميقة التي تضمّنها أعيادنا. فمجتمع الاستهلاك سلب من المؤمنين الصور الحقيقيّة لقدّيسيهم ومسخها وقدّمها إليهم من جديد أشخاصًا لا يمُتّون بصلة إلى ما كانوا عليه بالأصل.

فسيرة القدّيسة بربارة البعلبكيّة (+ 305) تقول إنّها استُشهدت بسبب اعتناقها المسيحيّة، وإنّ أباها ديوسقوروس هو مَن تطوّع لتنفيذ مهمّة بتر رأسها بالسيف. وتقول الرواية إنّ بربارة الشابّة الجميلة قد فرّت من وجه أبيها ولجأت إلى الجبال حيث انشقّت إحدى الصخور وأَوَتْها في بطنها. لكنّ ذلك لم يمنع السلطة الحاكمة من إلقاء القبض عليها وتعذيبها بأصناف شتّى من الوسائل وصولاً إلى القضاء عليها بالموت.

سيرة القدّيسة بربارة التي تُشبه سيَر العديد من الشهيدات، كالقدّيسات تقلا ومارينا وكريستينا وكاترينا، اتّخذت عند عامّة الناس طابعًا مميّزًا واحتفاليًّا. ففي عيدها، الذي يقع في الرابع من كانون الأوّل من كلّ عام، يطغى الطابع الفولكوريّ على ما سواه، ويأتي في بعض ممارساته على حساب الطابع الإيمانيّ الذي ينبغي أن يَسِمَ الأعياد الدينيّة، حتّى إنّ ألسنة العامّة تُغيّب اسم القدّيسة عن عيدها فتقول: “عيد البربارة” (مع تعريفها بالألف واللام) عوض القول: “عيد القدّيسة بربارة”، على غرار قولهم “عيد مار جرجس” أو “عيد مار يوحنّا”… هكذا يصبح العيد للبربارة (أي للقناع) لا للقدّيسة صاحبة العيد. وما يؤكّد كلامنا هو أنّ المسيحيّين في بلادنا تخلّوا أو كادوا أن يتخلّوا عن تسمية بناتهم بهذا الاسم المبارك، لأنّه أصبح، وللأسف، مدعاة للسخرية عند الناس لا لاحترامهم القدّيسة الشهيدة.

يسود الأوساطَ الشعبيّة الاعتقادُ بأنّ بربارة حين لجأت إلى الجبال تنكّرت كي لا يتعرّف عليها مَن يُلاحقها للقبض عليها. هي تنكّرت لتنجو بنفسها من أيدي جلاّديها، فيما عامّة الناس يتنكّرون للتهريج عليها بالأهازيج “هاشلة بربارة” التي لا تخلو أحيانًا كثيرة من الألـفـاظ البذيئـة. هي هاربة بقناعها من وعيد بالقتل، فيما الناس يسخرون بعضهم من بعض. فتاة ذاهبة إلى الموت نُواكبها بتهريج عظيم. عيد القدّيسة بربارة صار عيدًا للبربارة، صار عيدًا للقناع، لا عيدًا للوجه المخلوق على صورة الله ومثاله. لذلك، يصبح العيد مرادفًا لهالوين بشعوذاته وخرافاته، حتّى إنّ بعضهم بات يسمّي هذا العيد بهالوين لاغيًا اسم القدّيسة العظيمة.

غير أنّ ثمّة تقاليد حميدة تُرافق عيد القدّيسة بربارة من مثل التئام شمل العائلات والأصدقاء للصلاة وتبادل التمنّيات بمواسم فيّاضة بالخير والبركات، ولتناوُل القمح المسلوق مع بعض الجوز والصنوبر والزبيب، والقطايف وسواها من الحلويات المنزليّة التي تتوافق واحترام مقتضيات الصوم الذي يتهيّأ فيه المسيحيّون لميلاد المسيح. أمّا الجولات التي يقوم بها الكبار والصغار المقنّعين إلى منازل الأقرباء والجيران فكانت، في ما غبر من أيّام، ضمن الإطار ذاته الذي يضمّ تلك التقاليد الحميدة، إذ كانت تلك الجولات بعيدة عن روح الاستهلاك السائدة حاليًّا. وهذا ما ينبغي أن نُبقي عليه احترامًا لإيماننا ومبادئنا.

ومع اقتراب عيد الميلاد تزداد بعض المظاهر، من أشجار مزيّنة في الميادين والشوارع والمحلاّت على أنواعها، حتّى في النوادي الليليّة وأماكن اللهو الحرام والميسر، وأضواء ملوّنة مشكوكة على الأعمدة تحمل رموزًا بريئة للعيد ولا سيّما الشموع والأجراس، ومهرّج ذي ذقن كثّة بيضاء يلبس الأحمر ويقهقهُ قهقهات هستيريّة تحتقر الفقير بل تعتدي عليه وتستفزّه وتزيد من بلواه. وبدلاً من أن يكون العيد مناسبة يخرج الفقير فيها من مصائبه ليفرح ويبتهج مع عائلته وذويه، يزداد كربه وقهره، فيتمنّى ألاّ يأتي العيد أبدًا.

ولإضفاء الشرعيّة على هذا المهرّج السمج، المدعوّ بابا نويل، ابتدع بعضهم أنّ بابا نويل ليس سوى القدّيس نيقولاوس، نموذج الأسقف الراعي الصالح، والساهر على مشكلات أبنائه. غير أنّ ثمّة فارقًا كبيرًا بينهما هو أنّ نيقولاوس كان يأتي مجّانًا بالهدايا والثياب والطعام إلى الفقراء والمعوزين، فيما بابا نويل لا يأتي بهديّة إلاّ لـمَن أَدّى ثمنها، أمّا مَن لا يملك ثمن هديّة لأطفاله فيخرج بلا هدايا. نيقولاوس حبيب الفقراء يصبح فـي عصرنـا بابا نويل التـاجـر الجشع. مجتمع الاستهلاك يُحوّل بربارة إلى هالوين، ونيقولاوس إلى بابا نويل، والمسيح إلى سوبر ستار!

كان المسيحيّون يحتفلون بأعيادهم ببساطة الربّ يسوع وتلاميذه، عبر الأصوام والصلوات، والأناشيد والاحتفالات البريئة والموائد الأخويّة. وكان مقياس صدقيّة العيد والاحتفال الحقيقيّ به حضور الفقراء والمعوزين والمستضعفين في الأرض ومشاركتهم فيه، كونهم وحدهم مَن يتوجّب لهم التكريم في هذا العيد. فالمسيح ساوى نفسه بهم، لذلك كلّ تكريم لهم هو تكريم شخصيّ له. إنّهم هم أصحاب العيد

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قدّيسونا ومجتمع الاستهلاك