...

استقامة الإنسان في الإيمان والعبادة والمسؤوليّة

 

واجه يسوع في حادثة شفاء المرأة المنحنية الظهر واقعَين مَرَضيَّين، الأوّل يتعلّق بواقع المرأة المنحنية الظهر ذاته، والآخر يتعلّق بموقف المؤسّسة الدينيّة التي يمثّلها رئيس المجمع في حادثة شفاء هذه المرأة. في هذَين الواقعَين تظهر ميزات تفيدنا في اكتشاف معارج الاستقامة على أنواعها. فما هي؟

أوّلًا، القساوة. إنّها القساوة التي مارسها الشيطان على المرأة لمدّة ثماني عشرة سنة، والقساوة التي مارسها رئيس المجمع على كلّ مَن تُسوّل له نفسه طلب الشفاء يوم السبت بمنعه من القيام بهذه الخطوة يومها (لوقا ١٣: ١٦ و١٤). إنّها قساوة لا تعكس الحالة الطبيعيّة التي شاء الله أن يكون الإنسان المخلوق على صورته عليها. فالقساوة التي كانت سيّدة الموقف في المجمع في صبيحة ذاك السبت، والتي فيها يستريح الإنسان من كلّ أعماله من أجل تقديم العبادة لله، إنّما كانت على عكس روح هذه العبادة والتي كشفها لنا يسوع بصراحة: «فاذهبوا وتعلّموا ما هو: إنّي أريد رحمة لا ذبيحة» (متّى ٩: ١٣).

ثانيًا، عدم إمكانيّة الانتصاب. عانت المرأة ردحًا من الزمن من انحناء ظهرها، فكانت تنظر إلى الأرض، كما هي حال الحيوانات عمومًا، الأمر الذي يتبادر إلينا في التشبيه الذي استعمله يسوع بإشارته إلى إرواء الثور والحمار، في معرض تأنيبه رئيس المجمع (لوقا ١٣: ١٥). أمّا الوضع الطبيعيّ للإنسان فهو أن يكون منتصب القامة وينظر إلى الأفق، وهو المعنى المضمور في عبارة «إنسان» في اللغة اليونانيّة. أمّا رئيس المجمع فقد افتقد إلى حالة انتصاب القامة الروحيّ، أي الاستقامة الروحيّة، والتي كان من المفترض أن يتحلّى بها بحكم موقعه المسؤول كرئيس للمجمع.

ثالثًا، عدم رؤية إمكانيّة للخلاص. حضور يسوع ومخاطبته هذَين الواقعَين كان أساسيًّا ومحوريًّا لجهة إخراج الواقعَين من العجز الفادح الذي بلغاه، إلى الخلاص الذي ينشده الله للإنسان والذي جاء يسوع يكرز به ويدعو إليه ويحقّقه بيننا. فواقع المرأة المزمن لم يجد سوى بيسوع الجواب على انفكاك المعاناة واستعادة الحالة الطبيعيّة، ليس فقط الجسديّة من جهة شفائها من دائها، ولكن الروحيّة بشكل خاصّ، فهي للحال «مجدّت الله» (لوقا ١٣: ١٣). أمّا الواقع المزمن لرئيس المجمع، والذي شخّصه يسوع بالرياء (لوقا ١٣: ١٥)، فما كان ليجد طبيبًا شافيًا له منه أفضل منه، لكونه مَن وضع الشريعة، والقادر بامتياز على تفسير معانيها، ومَن وضعها موضع التطبيق بنفسه بحسب قلب الله، ويرشد إلى الحقّ من تاب إليه من ريائه.

رابعًا، الغيظ. اغتاظ رئيس المجمع لعدم احترام المرأة قدسيّة يوم السبت، قدسيّة نفت عن هذه المرأة إنسانيّتها، كما يشي به انفعاله الكبير من شفائها، وتوجيهه إرشادًا شاملًا إلى الحاضرين كافّة بخصوص ما هو لائق القيام به يوم السبت، متسلّحًا بالطبع بما يمنحه إيّاه موقعه الدينيّ وعلمه من سلطان وقدرة. فهل كان غيظه في مكانه، سواء من وجهة نظر إنسانيّة أم من وجهة نظر دينيّة؟ الجواب أعطاه يسوع. فهو اغتاظ منه، إنّما غيظه بخلاف ذاك، كانت الغاية منه مواجهة القوّة الغاشمة التي استخدمها الرئيس بحقّ المرأة وأمثالها من الذين يبتغون الاستشفاء يوم السبت، وبالدرجة عينها، مواجهة المفهوم الدينيّ الخاطئ القائم خلف هذا الاستخدام، وأخيرًا، مواجهة الرئيس بحالته الروحيّة الشخصيّة المسيئة والتي كان لها الأثر الكبير في موقفه من المرأة. غيظ يسوع فيه تصويب للرئيس أوّلًا، لكيفيّة ممارسته موقعه كرئيس؛ وثانيًا، لكيفيّة فهمه يوم السبت وتفسيره له؛ وأخيرًا، لكيفيّة تطبيقه الشريعة.

هكذا انكشفت لنا في هذه الحادثة حكمة الله بالرحمة التي ترجمها يسوع في إطلاقه سراح الإنسان من علل الجسد ونجاسة الروح وانحراف العبادة وتشويه قصد الله. وانكشف لنا أيضًا طريق استقامة شخص المؤمن بحسب نعمة الله وقصده منه، ولكن أيضًا طريق استقامة الجماعة المؤمنة، وبخاصّة استقامة المسؤولين فيها على درجاتهم كافّة، بحيث لا يتحصّنون بالدور أو الموقع الذي يمارسونه، فلا يعيشون أو يعلّمون أو يحكمون، باسم الله وشريعته وكلمته، على سواهم، بخلاف ما تأمر به كلمة الله أو تدعو إليه. فكلمة الله لا تقيّدها قوّة شيطان ولا خطيئة إنسان، فهي قاصدة الشفاء والخلاص، وتُخجل كلّ مَن يعاندها، بحيث تنقلنا إلى مشاركة حالة ما عاشه مشاهدو الحادثة، إذ «فرح كلّ الجمع بجميع الأعمال المجيدة الكائنة منه» (لوقا ١٣: ١٧). هلّا تخلّصنا إذًا من قيودنا فنبارك اسم الربّ مخلّصنا؟

+ سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

 

الرسالـة: غلاطية 3: 23 – 4: 5

يا إخوة، قبل أن يأتي الإيمان كنّا محفوظين تحت الناموس مُغلقًا علينا الى الإيمان الذي كان مزمعًا إعلانه. فالناموس إذًا كان مؤَدّبًا لنا يُرشدنا الى المسيح لكي نُبَرّر بالإيمان. فبعد أن جاء الإيمان لسنا بعد تحت موَدِّب لأن جميعكم أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع لأنكم كلّكم الذين اعتمدتُم في المسيح قد لبستُم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكرٌ ولا أنثى لأنكم جميعكم واحد في المسيح يسوع. فإذا كنتم للمسيح فأنتم اذًا نسلُ إبراهيم وورثةٌ بحسب الموعد. وأقول ان الوارث ما دام طفلا فلا فرق بينه وبين العبد مع كونه مالك الجميع، لكنّه تحت أيدي الأوصياء والوكلاء الى الوقت الذي أَجَّله الآب. هكذا نحن أيضًا حين كنّا أطفالا كنّا متعبّدين تحت أركان العالم. فلمّا حان ملء الزمان أَرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس ليفتديَ الذين تحت الناموس لننال التبنّي

 

الإنجيل: لوقا ١٠:١٣-١٧

في ذلك الزمان كان يسوع يعلّم في أحد المجامع يوم السبت، وإذا بامرأة بها روح مرض منذ ثماني عشرة سنة، وكانت منحنية لا تستطيع أن تنتصب البتّة. فلمّا رآها يسوع دعاها وقال لها: «إنّك مُطْلقة من مرضك»، ووضع يديه عليها، وفي الحال استقامت ومجّدت الله. فأجاب رئيس المجمع، وهو مغتاظ لإبراء يسوع في السبت، وقال للجمع: هي ستّة أيّام ينبغي العمل فيها، ففيها تأتون وتستشفون، لا في يوم السبت. فأجاب الربّ وقال: «يا مرائي، أليس كلّ واحد منكم يحلّ ثوره أو حماره في السبت من المذود وينطلق به فيسقيه؟ وهذه، وهي ابنة إبراهيم التي ربطها الشيطان منذ ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تُطْلَق من هذا الرباط يوم السبت؟» ولـمّا قال هذا، خزي كلّ من كان يقاومه، وفرح الجمع بجميع الأمور المجيدة التي كانت تصدر منه.

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

استقامة الإنسانالعبادة والمسؤوليّة
في الإيمان و