...

المرآة الصادقة للمحبّة الإلهيّة

 

 في الإنجيل، يسلّط يسوع الضوء على المعيار الذي يتعاطاه أهل العالم في ما بينهم ألا وهو التبادل. إنّه معيار المعاملة بالمثل الذي يضعك على قدم المساواة مع أترابك: أن تُبادلَ بالحبّ مَن أحبّك، وبالإحسان مَن أحسن إليك، وهكذا دواليك. انطلاقًا من هذا الواقع، ينقلنا يسوع إلى مستوى آخر، وهو أن تعامل غيرك كما يعاملك الله، فتأتي معاملتك للآخرين على مثال معاملة الله لك. فيسوع، بعد أن كنّا أعداء لله، صالحنا مع أبيه: أحبّنا وتجسّد من أجلنا؛ أعطانا فيض روحه القدّوس، وأخذ على عاتقه آثامنا؛ أعطانا كلمة الحياة وفرصة حياة أبديّة بعد هلاك موت.

من هنا، يدعونا يسوع إلى أن نحبّ من دون حدود ومن دون مقابل فيوصينا: «أحبّوا أعداءكم وأحسنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئًا» (لوقا ٦: ٣٥). هو يطلقنا في رحاب مجّانيّة محبّة الله للإنسان ويرانا من منظار أنّ الابن لا بدّ من أن يتحلّى بشيم أبيه ومناقبه. ويسوع هو مَن جسّد هذه الحقيقة في علاقته بنا وجعلنا نلمس كيف أنّ الآب السماويّ أحبّ حتّى بذل ابنه الوحيد من أجل أن يحيا الإنسان.

خبر القدّيس نيقولاوس فيليميروفتش (+١٩٦٥)، وهو أسقف من الكنيسة الصربيّة، خبرة محبّة الأعداء، إذ سُجن في المعتقلات النازيّة خلال الحرب العالميّة الثانية. في تأمّل له، يشاركنا وقع هذه الخبرة عليه: «بارك أعدائي يا ربّ ولا تلعنهم! فأباركهم أنا أيضًا. قادني الأعداء إلى أحضانك أكثر مـمّا فعل أصدقائي. أصدقائي ربطوني بالأرض، أمّا أعدائي فحلّوني منها وبعثروا مطامحي الدنيويّة كلّها. (…) وجدتُ الملاذ الأكثر أمنًا بلجوئي إلى خيمتك، حيث لا أعداء ولا أصدقاء يقدرون على إيذاء نفسي».

ثمّ يصفها من زاوية علاقته بنفسه: «باركْ يا ربّ أعدائي ولا تلعنْهم! فأباركهم أنا أيضًا. لقد اعترفوا بخطاياي بدلًا منّي أمام العالم. عاقبوني عندما تردّدتُ في معاقبة نفسي. عذّبوني بينما كنتُ أحاول تجنّب العذابات. أهانوني في حين كنتُ أتملّق نفسي. بصقوا في وجهي حينما امتلأت نفسي من الافتخار والكبرياء».

وبعدها، يتناولها بالعلاقة مع الآخرين: «في كلّ مرّة ادّعيتُ فيها الحكمة كانوا ينادونني بالأحمق. في كلّ مرّة قمتُ فيها بدور القويّ، كانوا يسخرون منّي وكأنّي قزم. كلّما تمنّيتُ أن أقود الناس، كانوا يدفعونني إلى خلف. كلّما حاولتُ أن أغْني نفسي، كانوا يمنعونني بيد من حديد. كلّما فكّرتُ بأن أنام بسلام، كانوا يوقظونني من النوم. في كلّ مرّة حاولتُ أن ابني بيتًا لحياة مديدة هادئة، كانوا يطردونني منه ويهدمونه. حقًّا قطع أعدائي كلّ ارتباط لي في هذا العالم، فمددتُ يديّ لألامس هدب ثوبك. لذا باركْ يا ربّ أعدائي ولا تلعنْهم! فأباركهم أنا أيضًا».

ثمّ يرى عبرها واقع علاقته بالله: «باركْهم يا ربّ وكثّرْهم! كثّرْهم واجعلْهم أكثر قسوة عليّ. ليكون لجوئي إليك بلا رجعة. ليتحطّم كلّ رجاء لي بالناس، كما تتحطّم شبكة العنكبوت. ليَحكم السلام المطلَق على نفسي. ليصير قلبي قبرًا لأخويَّ الشرّيرَين: العجرفة والغضب. فأخبّئ كنوزي كلّها في السماوات. وأصير مؤهّلًا للتحرّر إلى الأبد من وهم الذات الذي يأسرني في الشبكة المميتة لهذه الحياة الخدّاعة».

أمّا زبدة هذه الخبرة، فيقدّمها على النحو التالي: «علّمني أعدائي ما يعرفه القليلون، وهو أنّ ما من عدوّ للإنسان في هذا العالم إلّا نفسه. ولا يكره أعداءه إلّا مَن يفشل في معرفة أنّهم ليسوا أعداء بل أصدقاء قساة القلب!». ويختم بطريقة تلامس الشطر الثاني من قول الربّ – «… فيكون أجركم عظيمًا وتكونوا بني العليّ فإنّه منعم على غير الشاكرين والأشرار» (لوقا ٦: ٣٥) – فيشرحها لنا على الشكل التالي: «إنّ العبد يلعن أعداءه لأنّه لا يفهم، أمّا الابن فيباركهم لأنّه يفهم. يفهم أنّ أعداءه لا يستطيعون أن يهدّدوا حياته، لذلك يتنقّل بحرّيّة بينهم ويصلّي من أجلهم. فباركْ يا ربّ أعدائي، كما أباركهم أنا أيضًا».

هكذا كانت هذه الخبرة المرآة الصادقة لهذا القدّيس فجسّد وصيّة الربّ هذه في خدمته وشهادة حياته وتعليمه. إنّها خبرة تنقل المؤمن من الخطيئة إلى الشركة مع الله. لا شكّ في أنّها خبرة مؤلمة، لكنّها مخاض يعبر بنا إلى حضن الآب السماويّ. فهل من واثق بمحبّة الله له حتّى يعيش هذه المغامرة؟

+ سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

 

الرسالة: ٢كورنثوس ٤: ٦-١٥

يا إخوة، إنّ الله الذي أمرَ بأن يُشرقَ نورٌ هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح. ولنا هذا الكنز في آنية خزفيّة ليكون فضلُ القوّة لله لا منّا، متضايقين في كلّ شيء ولكن غير منحصرين، ومُتَحيّرين لكن غير يائسين، ومُضطهدين ولكن غير مخذولين، ومطروحين ولكن غير هالكين، حاملين في الجسد كلّ حين إماتة الربّ يسوع لتظهر حياة يسوع في أجسادنا لأنّا نحن الأحياء نُسلَّم دائمًا إلى الموت من أجل يسوع لتظهر حياة المسيح أيضًا في أجسادنا المائتة. فالموت إذًا يجري فينا والحياة فيكم. فإذ فينا روح الإيمان بعينه على حسب ما كُتب إنّي آمنتُ ولذلك تكلّمتُ فنحن أيضًا نؤمن ولذلك نتكلّم، عالمين أنَّ الذي أقام الربّ يسوع سيُقيمنا نحن أيضًا بيسوع فننتَصب معكم لأنّ كلّ شيء هو من أجلِكم لكي تتكاثر النعمة بشكرِ الأكثرين فتزداد لمجد الله.

 

الإنجيل: لوقا ٦: ٣١-٣٦

قال الربُّ: كما تريدون أن يفعلَ الناسُ بكم كذلك افعلوا أنتم بهم. فإنّكم إن أحببتم الذين يحبّونكم فأيّة مِنَّةٍ لكم؟ فإنّ الخطأةَ أيضًا يُحبّون الذين يحبونهم، وإذا أحسنتم إلى الذين يُحسِنون إليكم فأيَّةُ مِنَّةٍ لكم. فإنّ الخطأةَ أيضًا هكذا يصنعون. وإن أقرضتم الذين تَرجون أن تستَوفوا منهم فأيّة مِنَّةٍ لكم؟ فإنّ الخطأة أيضًا يُقرضون الخطأة لكي يستوفوا منهم المِثل. ولكن أحبّوا أعداءكم وأحسنوا وأقرضوا غير مؤَملين شيئًا فيكون أجركم كثيرًا وتكونوا بني العليّ. فإنّه مُنعِمٌ على غير الشاكرين والأشرار. فكونوا رُحماء كما أنّ أباكم هو رحيمٌ.

 

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

المرآة الصادقة للمحبّة الإلهيّة