...

من الخيبة إلى الرجاء

حكى يسوع لتلاميذه هذا المثل: كان في بستانٍ شجرةٌ من التين، تردَّد صاحب البستان عليها مرارًا ليقطف منها ثمرًا، ولكنّه لم يجد فيها ثمرًا. فقال للبستانيّ: منذ ثلاث سنواتٍ وأنا أقصد هذه التينة لأقطف منها ثمرًا فلا أجد فيها ثمرًا! فاقطعْها لأنّها تشغل حيّزًا من الأرض من دون فائدةٍ! فأجابه البستانيّ: يا سيّدي، ألا تدعها عامًا آخر، فأقلّب تربتها وأسمّدها، لعلّها تثمر، وإنْ لم تثمر قطعتها.

خاب أمل صاحب البستان من هذه الشجرة. من الناحية الزراعيّة، لا فائدة من الاعتناء بشجرة عقيمة. من هنا أنّ قرار السيّد بقطع الشجرة بعد ثلاث سنين من الانتظار مبرّر تمامًا. في هذه الظروف يظهر اقتراح البستانيّ شديد الغرابة، بخاصّة بالنسبة إلى نبتة تظهر كلّ المعطيات أنّ لا قيمة لها. لذلك يأتي عرضه تصويرًا رائعًا للنعمة التي يجود بها الله على البشر. يسبق هذه القصّة قول يسوع: إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون. ما هو التحوّل (أي التوبة) الذي يدعونا إليه مثل الشجرة؟ أن نتوب هو تمامًا أن نتحوّل من صورة الإله الضيّق الصدر الذي لا يحتمل الخيبات، إلى الإله الحقّ الذي يرى إلى الرجاء المبذور المستتر في خليقته فيقلّب التربة ويسمّدها حتّى تنبت.

في مناخ الحبّ الإلهيّ، يظهر «الحبّ المجنون» (بحسب تعبير القدّيس نيقولا كاباسيلاس) صورة أخرى عن أحشاء الرحمة التي ترجو دائمًا. فالله يغفر لزوجته الزانية في إرمياء ٣، أي ينسى زناها بسبب من حبّه، وهذا عبثيّ كما يقول «إذا طلّق رجل امرأته فانطلقت من عنده وصارت لرجل آخر، فهل يرجع إليها؟» (إرمياء ٣: ١). «لَكِنْ هَأَنَذَا أَتَمَلَّقُهَا وَأَذْهَبُ بِهَا إِلَى الْبَرِّيَّة وَأُلَاطِفُهَا وَأُعْطِيهَا كُرُومَهَا مِنْ هُنَاكَ … بَابًا لِلرَّجَاءِ» (هوشع ٢: ١٤).

في مثل الابن الشاطر يبقى الوالد موجودًّا بشكل ثابت (جسديًّا وشعوريًّا) ليستجيب لمؤشّرات القلق عند ابنه عند ظهورها. لا تثنيه الخيبة بل يرسل له شوقه سرّيًّا يتحرّك في قلب الابن الشاطر رغم بعده، فيغدو الحنين بوصلة تعيده إلى الرجاء المنتظر. حساسيّة الوالد الفائقة يصوّرها بقوّة مثل الراعي الذي يفتّش عن الخروف الذي ضلّ. فانتظار الله ليس انتظارًا باردًا بل فعّالًا في استعادة العلاقة (كما في مثل الخروف الضال) وفي الوقت عينه غير اقتحاميّ (الوالد في مثل الابن الشاطر).

كيف نستدخل هذا الرجاء في حياتنا؟

– على صعيد النفس والأشخاص حولنا: لا نقطع شجرتنا الداخليّة بتسرّع غير ناضج، بل نعتني بها كالبستانيّ. النظر إلى النمو على المدى البعيد وليس إلى «إنجازات» قرّرتها اعتباطيًّا أحكام مسبقة. فلكلّ شخص إيقاعه الخاصّ في تفتّح براعمه وفي التحوّلات الداخليّة والخارجيّة.

– على صعيد الجماعة المؤمنة: هنا أيضًا الواقع متحرّك ولا يمكن تجميده في قوالب، ولكن يمكن للتوتّر بين الواقع والمرتجى أن يكون توتّرًا خلّاقًا. في هذه المقاربة، لا تعود الخيبات حالة مزمنة من اليأس والتقهقر إلى الخلف، بل تتحوّل قواها الكامنة إلى حافز إيجابيّ للتقدّم إن انفتحنا لإلهامات تأتينا ممّا نرجوه ونظرنا بعين الأمومة إلى الواقع وما يحتويه من بذور قادرة على أن تنبت إن احتضنّاها.

– على صعيد المجتمع: هل نرجو أن يتحوّل المجتمع فردوسًا؟ أقلّ الإيمان أن نعمل على ألّا تسوده شريعة الغاب، وفي هذا المضمار لا بدّ للمؤمنين من أن يكونوا ملح الأرض والخميرة التي تلج بها قوّة التغيير أحشاء المجتمع. وقد تغدو استقامتهم وشجاعتهم في الشهادة قوى فاعلة نحو التحوّل، في احترام كبير ومواجهة صريحة وآليّات عمل واضحة وتمييز نطلبه من العلى. وفي كلّ هذا قد تتلوّن الآراء

وتتنوّع وتختلف في آليّات التصاعد من الواقع إلى المرتجى. فإذا تلاقحت بمحبّة واحترام من دون استئثار بالحقّ، تتنزّل عليها إيحاءات من السماء تقفز بها من الخيبة إلى الرجاء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من الخيبة إلى الرجاء