...

كلمة الراعي المرآة الإنجيليّة للنّفس في المصعد الروحيّ

يتعلّم المؤمن، في جهاده الروحيّ، أن يحفظ نفسه من الهلاك وأن يخلّصها بنعمة الله وبالحكمة التي تكسبه إيّاها خبرة مَن سبقوه في الجهاد. في معرض تهيئتنا لجهاد الصوم الكبير، يأتي مثل الفرّيسيّ والعشّار ليشاركنا بعضًا من هذه الحكمة ويدعونا إلى تمثّلها فعلًا لا قولًا. فكيف نكتسبها؟

تعدادُ المآثر قد يساعد مَن كان ضعيفَ الإيمان على أن يقوّيه عبر شكره الله على نعمته في تحقيقها. وقد يعين تعدادُها وقت الشدّة مَن كان صغير النفس على احتمال الشدّة بالصبر عليها كلّما استذكر إحسانات الله نحوه ونحو الآخرين، فيحرص على ألّا يفقد روح المبادرة والثقة بعناية الله وتدبيره. وقد ينفع تعدادها مَن ظنّ نفسه أنّه صاحب إنجازات فيتّضع عبر استذكار أصحاب الفضل عليه فيرفع الشكر على ما تحقّق بفضلهم. على هذا المنوال يعود تعدادُ المآثر بالفائدة على صاحبه ويكون خلاصيًّا، من دون أن يجرّه ذلك إلى الوقوع في فخّ الكبرياء والتعالي والمجد الباطل.

أمّا لومُ النفس فوسيلةٌ يعرّي بها المرء ذاته على ضوء الإنجيل ويرى بفضلها عيوبه وخطاياه. لوم الذات سلاح يواجه به المؤمنُ تبريرَ ذاته وتهرّبَه من تحمّل مسؤوليّة هفواته وأخطائه بتحميل سواه المسؤوليّة بشأنها. لوم الذات حصن يحفظ المؤمن من التفاخر بموهبة أو إنجاز ومن الاستعلاء بسببهما على الآخرين. لوم الذات يشفي من داء تحرّي عيوب الآخرين وخطاياهم وما يرافقه من روح إدانة ودينونة. لوم الذات دواء يساعد المؤمن على إصلاح نفسه كلّ يوم، عوضًا من أن يتلهّى في وعظ الآخرين حول كيفيّة إصلاح أنفسهم. لوم النفس شفاءٌ لها من علل كثيرة وسبيلٌ لتقويمها واستعادة للعلاقة الصحيحة مع الذات والله والقريب.

ما سلف توضيحه يأخذ مكانه عندما يلامس أقدس ما في حياتنا، أي قلبنا. فهناك معركتنا الحقيقيّة وجهادنا من أجل أن يكون هذا القلب نقيًّا بحدّ ذاته، أي نقيًّا في علاقتي بالله وبالقريب. وإلّا ما نفع الوسائل التي تحدّثنا عنها إن كانت لا تخدم بالتحديد هذا الغرض؟ فالوقوف في حضرة الله، سواء في مخدعنا أو في الهيكل، ورفع الصلاة إليه لا يمكن أن يكون بمعزل عن حالة القلب وكيف يقدّم المؤمن قلبه فيها وما يعتمله من أفكار تجاه الأشخاص أو الأشياء أو الأحداث.

كلّنا يعي أنّ نقاوة القلب لا نبلغها إلّا إذا آزرتنا النعمة الإلهيّة في سعينا. فالوقوف في حضرة الله في الصلاة هو المرتكز في هذا الجهاد لتنقية القلب. فإن فاتتنا رؤية هذه الحاجة وسؤال العون لتحقيقها، ساعتها يحقّ للمراقب أن يتساءل عن معنى هذه الصلاة والجدوى من الوقوف في حضرة الله وعبادته.

يضعنا مثل الفرّيسيّ والعشّار في مواجهة مع هذا الواقع في شخصَي الفرّيسيّ والعشّار اللَّذين «صعدا إلى الهيكل ليصلّيا» (لوقا ١٨: ١٠). فالأوّل عدّد مآثره الروحيّة وشكر الله، شكلًا لا فعلًا، على تمايزه عن القريب السيّئ السيرة أو السمعة أو الأخلاق، مقارنًا نفسه به حتّى درجة احتقاره وتبجيل نفسه: «اللّهمَّ أنا أشكرك أنّي لستُ مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشّار» (لوقا ١٨: ١١). أمّا الثاني، فيبدو أنّه فحص نفسه ولامها على أفعالها، الأمر الذي أفضى به إلى أن يجد نفسه غير مستحقّ للوقوف في حضرة الله وإلى حاجته القصوى إلى رحمته: «أمّا العشّار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينَيه نحو السماء بل قرع على صدره قائلًا: اللّهمّ ارحمْني أنا الخاطئ» (لوقا ١٨: ١٣). إذا ما وضعنا هذَين الموقفَين على الميزان، لفاز الموقف الثاني على الأوّل. هذا ما أشار إليه يسوع في خاتمة المثل: «إنّ هذا (العشّار) نزل إلى بيته مبرّرًا دون ذاك (الفرّيسيّ)»، ثمّ ثبّته في الخلاصة العامّة: «كلّ مَن يرفع نفسه يتّضع ومَن يضع نفسه يرتفع» (لوقا ١٨: ١٤). هذه الخلاصة الإنجيليّة هي مرآة نفسنا في المصعد الروحيّ التي يعرضها علينا الربّ إن شئنا استخدامها في دنوّنا من الله. أَفَلا يجدر بنا تبنّيها في جهادنا وحياتنا كمبدأ لمحاسبة النفس ومقياس لحياتنا الروحيّة ومعيار لخلاصنا؟

هل يمكننا أن ندع هذه الأضواء الكاشفة تنفذ إلى واقعنا الروحيّ، الشخصيّ والجماعيّ، الرعويّ والكنسيّ، لكي تعرّي فينا نزعة الفرّيسيّ الاستعراضيّة والفارغة والمميتة روحيًّا، سواء المعشّشة في صميم قلبنا أو الملازمة لأوجه في خدمتنا وعبادتنا؟ لا بدّ من الانتباه إلى ألّا نقع في الفخّ المتمثّل بأن نحتقر بدورنا الفرّيسيّ الذي في المثل لأنّنا لسنا مثله. هذا قد يحصل إذا ظننّا بأنّنا نسلك سبيل العشّار عندما نمجّ صورة السيّئ ونتغنّى بصورة الصالح، ولكن لا نتغيّر في العمق لأنّ الفرّيسيّة متأصّلة فينا إلى درجة كبيرة لا يستأصلها عمليًّا منّا سوى صلاة من طينة صلاة العشّار المنسحقة والمتنهّدة. إنّها الحقيقة التي تصدمنا وتشفينا بآن، لأنّها تضعنا في السياق الذي شاءه الربّ أن يخلّصنا به: أن يبرّرنا الله لا أن نبرّر أنفسنا! هلّا انتبهنا؟

+ سلوان مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: ٢تيموثاوس ٣: ١٠-١٥Αποστολική 2 Τιμ. 3:10-15

يا ولدي تيموثاوس إنّك قد استقْرَيتَ تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبّتي وصبري واضطهاداتي وآلامي، وما أصابني في أنطاكية وإيقونية ولسترة، وأيّة اضطهادات احتملتُ وقد أنقذني الربّ من جميعِها، وجميعُ الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهَدون. أمّا الأشرار والمُغوُون من الناس فيزدادون شرًّا مُضِلّين ومُضَلّين. فاستمرّ أنت على ما تعلّمته وأَيقنتَ به عالـمًا ممّن تعلّمت وأنّك منذ الطفوليّة تعرف الكتب المقدّسة القادرة على أن تُصيّرك حكيمًا للخلاص بالإيمان بالمسيح يسوع.

 

الإنجيل: لوقا ١٨: ١٠-١٤Ευαγγελική Λκ.18: 10-14

قال الربّ هذا المثَل: إنسانان صعدا إلى الهيكل ليُصلّيا، أحدهما فرّيسيّ والآخر عشّار. فكان الفرّيسيّ واقفًا يصلّي في نفسه هكذا: «اللّهمّ إنّي أَشكرُك لأنّي لستُ كسائر الناس الخَطَفة الظالمين الفاسقين ولا مثل هذا العشّار، فإنّي أصوم في الأسبوع مرّتين وأُعشّر كلّ ما هو لي». أمّا العشّار فوقف عن بُعدٍ ولم يُردْ أن يرفع عينيه إلى السماء، بل كان يقرع صدره قائلًا: «اللّهمّ ارحمني أنا الخاطئ». أقول لكم إنّ هذا نزل إلى بيته مبرّرًا دون ذاك، لأنّ كل مَن رفع نفسه اتّضع، ومَن وضع نفسه ارتَفَع.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

المرآة الإنجيليّة للنّفس في المصعد الروحيّ