...

كلمة الراعي شكيمة المؤمن بالمسيح وقدرتها على تغيير الواقع

كُتبت لأعمى أريحا حياة جديدة لـمّا أعلن له المسيح: «أبصِرْ. إيمانك قد شفاك»Λοκ18:42)   ( (لوقا ١٨: ٤٢). كان هذا الإعلان ساعة الصفر لبدء حياة جديدة، وأقصد حياته بالمسيح. فالشفاء من العمى كان الباب لشفاء آخر. صحيح أنّ ظاهر الحادثة تمحور حول استعادة البصر، لكنّ كلام المسيح هذا كشف لنا عن عمق آخر جرى في قلب هذا الأعمى، وأعني الرؤية العظمى التي تأتي من الإيمان بالمسيح. 

أن تستعطي إنسانًا شيءٌ، وأن تستعطي الله شيءٌ آخر. يبدو أنّ هذا الأعمى امتهن الحرفتَين وبرع فيهما. كانت حاجته الأولى تملي عليه أن يستوقف الناس ليقدّموا له ما يدرأ به معيشته، بينما أملت عليه حاجته الأخرى أن يستوقف يسوع ليلقي عليه همّه. وأحرز نجاحًا في المحاولتَين، إذ استطاع أن يدفع الجميع من الضوضاء إلى الانتباه إلى واقعه الشخصيّ المؤلم والقاسي، ومن ثمَّ إلى واقع وجود يسوع المخلّص والمحيي. 

لقد تخطّى هذا الأعمى، وعسانا نلحق به بدورنا، حاجز الواقع الذي يقبض علينا ببراثنه ويفرض علينا رؤيته السوداويّة لها. حوّل عماه إلى طاقة يتجاوز بها واقعه الصعب ويغلب كلّ ما يدفعه إلى الاستسلام. اتّخذ من عاهته فرصة ليتدرّب على تحفيز قواه الداخليّة ورفع معنويّاته، فاستطاع أن يصمد برجاء كبير على «خطّ تماس» خطر: من جهة، لامبالاة الناس بأمثاله؛ ومن جهة أخرى، واقعه غير المرشّح عمليًّا لأيّ تغيير يُذكَر. أَليس في هذا الموقف مدعاة لنا لنتعلّم منه ألّا نستسلم لرؤية سوداويّة للواقع الصعب؟

ما يشدّنا في حادثة شفاء الأعمى هو ثباته في مسعاه حتّى النهاية، حتّى درجة اعتراض مجرى حياة العابرين به، ولفْت انتباه يسوع إليه. استمرار الأعمى في مناداة يسوع ينقّينا من كلّ ما يجعلنا نيأس من حلّ صعوباتنا وأزماتنا، أو مـمّا نشعر به من عجز عن تحقيق أيّ تقدّم أو تغيير على أيّ صعيد. لقد انطلق إصرار الأعمى من شكيمته، أي من قوّة قلبه وقوّة إيمانه.

رسم هذا الأعمى، بفعل تجربته الشخصيّة ومعاناته، مسار الأحداث في إنجيل شفائه. ولقد شكّل سؤالُ يسوع الموجّه إليه: «ماذا تريد أن أفعل بك؟» (لوقا ١٨: ٤١)، اليدَ الممدودة التي لاقته وسط الضوضاء والعجز الحاصلَين، فنفض الغبار عن العتاقة التي يعيشها. لقد كان جواب الأعمى: «يا سيّد، أن أُبصر» (لوقا ١٨: ٤١)، اليد التي لاقت اليد الأولى، فأفصح لنا عن ثقته بما يريد وبمَن يتحدّث إليه. ثقته هذه كانت بوصلته للاستمرار في الإبحار وسط أمواج الواقع التي كانت تلطمه من كلّ حدب وصوب، إلى درجة كانت تبغي إسكات أيّ صوت لديه وتعطيل أيّة إرادة خيّرة أو محاولة منه. إليكم مثالًا على ذلك: «انتهره المتقدّمون ليسكت أمّا هو فصرخ أكثر كثيرًا: يا ابن داود، ارحمْني» (لوقا ١٨: ٣٩). إنّها ثقة أفرحت الربّ، والتي يرغب في أن يجدها فينا، فرادى وجماعة، في مواجهتنا واقعنا القاسي والمؤلم.

ما أجمل هذا المشهد في ختام حادثة الشفاء: «في الحال أَبصر وتبعه وهو يمجّد الله. وجميع الشعب إذ رأوا سبّحوا الله» (لوقا ١٨: ٤٣)! إنّه مشهد نراه في شهادات قديمة ومعاصرة ويلهمنا في مواجهة تحدّياتنا بعين جديدة وبصيرة روحيّة نيّرة، ترى ما يراه الربّ فيها وعبرها، وتطلب القوّة والإلهام والنعمة لكي تضعها في سياق مشيئته ومن أجل مجده. 

الحمد لله أنّ في كنيستنا شهادات كثيرة على مواقف غيّرت واقعًا ميؤوسًا منه بفضل إيمان مماثل لإيمان هذا الأعمى، وتجلّت في صلوات ومساعٍ تحدّت الواقع ودفعته في اتّجاه جديد بالكلّيّة. جمال هذه الشهادات أنّها تشدّد أواصر الإيمان التي تجمع بين أصحابها، على اختلاف الظروف والأوضاع والأزمنة، وتعزّز فيهم روح الجماعة التي تمجّد الله بإيمانها الفاعل بالمحبّة (غلاطية ٥: ٦)، وأن تُعرف كلّ طلباتها لدى الله بالصلاة والدعاء مع الشكر (فيلبي ٤: ٦). 

هل انقشع الآن مجال الرؤية أمامنا؟ الفضل في ذلك لكلّ مسعى مماثل لمسعى هذا الأعمى، ولكلّ نعمة يعطيها الربّ لسائليه إيّاها. هلّا تشجّعنا اليوم، قبل الغد، وجدّدنا إيماننا بالمسيح وطلبنا إليه أن يعيد إلينا بصرنا الذي سلبه منّا واقع الأحداث والأزمات؟ هلّا سبّحناه على نعمته فيها وفرحنا بمَن يعطينا من إخوتنا وآبائنا أن نرى واقعنا بنور الذي «ينير كلّ إنسان آتيًا إلى العالم» (يوحنّا ١: ٩)؟ ما أحلى أن نسمع يسوع يقول لنا اليوم: «أبصروا. إيمانكم خلّصكم»!

+ سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

الخطأة الذين أنا أَوّلهم. لكنّي لأجل هذا رُحِمت ليُظهر يسوعُ المسيح فيّ أنا أوّلًا كلّ أناةٍ مثالًا للذين سيؤمنون به للحياة الأبديّة. فلمَلِك الدهور الذي لا يعروه فساد ولا يُرى، الله الحكيم وحده، الكرامة والمجد إلى دهر الدهور، آمين.

 

الإنجيل: لوقا ١٨: ٣٥-٤٣Ευαγγελική Λουκ.18:35-43                                          

في ذلك الزمان فيما يسوع بالقرب من أريحا كان أعمى جالسًا على الطريق يستعطي. فلمّا سمع الجمع مجتازًا سأل: ما هذا؟ فأُخبر بأنّ يسوع الناصريّ عابر، فصرخ قائلًا: يا يسوع ابن داود ارحمني. فزجره المتقدّمون ليسكت فازداد صراخًا: يا ابن داود ارحمني. فوقف يسوع وأمر بأن يُقدّم إليه. فلمّا قرُب سأله: ماذا تريد أن أَصنع لك؟ فقال: يا ربّ، أن أُبصر. فقال له يسوع: أَبصرْ، إيمانُك قد خلّصك. وفي الحال أَبصر وتبعه وهو يُمجِّد الله. وجميعُ الشعب إذ رأوا سبحوا الله.

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

شكيمة المؤمن بالمسيح
وقدرتها على تغيير الواقع