...

في التواصل والعفّة وعدم الحسّ

نعيش اليوم في عالم رقميّ بامتياز. معظم ما يختصّ بنا، ولعلّ كلّ ما يتعلّق بالتواصل بين الناس، أصبح يشفّر إلى أرقام ويرمى على الشبكة العنكبوتيّة (الإنترنت)، ليصل إلى جهاز يعيد تشفيره ليعود إلى ما كان عليه، قبل نقله سلكيًّا أو ضوئيًّا أو فضائيًّا. أصبحت الكتب رقميّة، كذلك التصوير والتسجيل الصوتيّ والمكالمات الهاتفيّة، الاجتماعات العابرة للمكاتب والدول، المعاملات المكتبيّة أو المصرفيّة أو التجاريّة، التصويت في الكثير من البلدان ومجالس النوّاب وغيره. هذا ما يفسر الانتشار الشامل للأدوات التي تسهّل هذا النوع من التواصل، ولا سيّما الهواتف الذكيّة التي يوزّع منها نحو ٧ مليارات جهاز في عالم يبلغ عدد سكانه نحو 7 مليارات ونصف المليار. لا يعني الرقم طبعًا أنّ ٧ مليار إنسان يستخدمون الهواتف الذكيّة لأنّ العديد من الشركات والتجمّعات والأشخاص يستخدمون أكثر من هاتف واحد، لكنّ الرقم الضخم جدًّا يعطي صورة عن مدى انتشار الهواتف الذكيّة ومدى اعتماد عالمنا المعاصر عليها.

هذا الواقع له طبعًا أثره الإيجابيّ في المجتمعات خصوصًا في مجالات التواصل ونقل المعلومات والتثقيف بمختلف جوانبه. الاتّصالات الرقميّة سهّلت كثيرًا عمليّة التواصل مع العالم الخارجيّ، وتبادل الآراء والأفكار وعمليّة التعرف إلى الأشخاص والحضارات والثقافات الجديدة والبعيدة. بيد أنّ توفّر وسائل التواصل الاجتماعيّ لجميع الناس، له انعكاسات سلبيّة جمّة على الأفراد أنفسهم، وعلى الجماعات التي ينتمون إليها. لقد فتحت وسائل التواصل الاجتماعيّ الباب بسهولة كبيرة أمام من قد لا يدركون أهمّيّة الكلمة ومفاعيلها، أمام المثقّف كثيرًا والقابع في جهل مخيف على حدّ سواء، أمام العقول النيّرة والحكيمة وأمام تلك المظلمة والشرّيرة. أفضل تأكيد لهذا القول هو سهولة انتشار الفكر الداعشيّ عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ وقدرته على اصطياد أعداد كثيرة، بشكل جعل كلّ العالم في حيرة من أمره.

عند تصفح شبكات التواصل تجد الناس يقولون كلّ شيء وأيّ شيء. من كان يختلق الأفكار ويبثّ الإشاعات ويحرّف الوقائع بات بإمكانه أن يفعل ذلك انطلاقًا من منصّة تتخطّى محدوديّة الزمان والجغرافيا، وتخترق عبر الفضاء الرقميّ كلّ الحواجز وتصل إلى كلّ الناس. كما يبدو أنّ العالم الرقميّ أكثر قابليّة من العالم الواقعيّ لتلقّف الإشاعات واستثمارها وبثّها، ما يجعل ضررها متعاظمًا ومهدّدًا وحدة الجماعات والسلام والمحبّة بين أعضائها، ما لم يبن هؤلاء، وبسرعة، منعة ضدّ تقبل كلّ ما يقرأونه، وفكرًا نقديًّا يستطيع التمييز بين ما هو مؤكّد وما لا يعدو كونه ثرثرة شرّيرة ونميمة خبيثة. ما لم تكتسب الجماعات، ومنها الكنيسة، هذه المنعة، سيتعاظم شرّ هؤلاء وسيدفعهم ذلك إلى الإكثار من بثّ سمومهم عبر شبكات التواصل الاجتماعيّ.

لقد نبّهنا آباء الكنيسة من هذه الأمور ونحن اليوم أكثر احتياجًا إلى سماع صوتهم النبويّ في أقوالهم وكتاباتهم. آباؤنا قدوة إذا تبعناهم يرفعوننا إلى القدرة على التمييز بين الحقّ والباطل، وبين من يقوده الحقّ ومن يخضع لسلطنة إبليس. هذا، أي الخاضع لسلطنة إبليس، يسقط في عدم الحسّ، وهو موت النفس والروح قبل موت الجسد. نبهنا منه القدّيس يوحنّا السلّميّ وقال عنه في مقالته الثامنة عشرة: «العادم الحسّ حكيم فاقد الحكمة ومعلّم يدين نفسه بنفسه. ومحدّث يناقض ذاته، أعمى يعلّم النظر، يتحدّث عن شفاء الجرح ولا يكفّ عن حكّه. يشكو من مرض ولا ينقطع عن تناول ما يزيده تفاقمًا… يطوّب الطاعة وهو أوّل من يعصى».

أمام هذا الواقع وكثرة الكلام الفارغ الذي يجتاح مواقع التواصل، لا بدّ لنا من أن نسمع أيضًا صوت القدّيس يوحنّا في سلّم الفضائل عندما يفضح الكثير من الكلام والصراخ عبر الفيسبوك أو الواتساب أو أيّ وسيلة أخرى بقوله: «إكثار الكلام هو عرش للعجب اعتاد أن يشهر ذاته عليه ويعرضها. إكثار الكلام دليل على عدم المعرفة، وباب للوقيعة، ومرشد إلى المزاح، وخادم للكذب… ومشتّت للعقل، وملاشٍ للتيقّظ، ومخمّد للحرارة، ومبيد للصلاة» (المقالة الحادية عشرة).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في التواصل والعفّة وعدم الحسّ