...

عن فرادة وجود الروح القدس وحصريّته

أعظم عطيّة يهبها المسيح للكنيسة هي هديّة الروح القدس. هذه العطيّة، فضلاً عن كونها أصليّة وفريدة من نوعها، هي استثنائيّة.

الآن، لو وجدنا هذا التأكيد غير مفاجئ، فلا بدّ من أنّنا لم نُـمعن التفكير النقديّ الذي تستدعيه! بعض دارسي الكتاب المقدّس الأوفياء قد يتساءلون عن مدى صحّة هذا الإعلان.

إذا تأمّلنا النصوص الليتورجيّة على سبيل المثال، فهل تُعلن الترانيم الكنسيّة أنّ الروح القدس «حاضر في كلّ مكان ومالئ الكلّ»؟ ومنذ أن كان «روح الله يرفّ على وجه الغمر»، في أولى كلمات التكوين، ألم يكن هو المالئ طول الكون وعرضه؟ وأيضًا، ألا يؤكّد دستور الإيمان على الروح القدس «الناطق بالأنبياء» على مدى تاريخ الخلاص؟

إذًا، إذا كان هذا هو الحال، فكيف يمكن وصف حضور الروح في الكنيسة بالـ «خاصّ» وبالـ «حصريّ» – أو بالحقيقة، كأعظم هديّة يقدّمها المسيح للكنيسة؟ أليس من الأفضل استعمال عبارات «كمّيّة» لوصف ذلك بطريقة أدقّ، كقولنا مثلاً إنّ الروح القدس «أكثر» حضورًا في الكنيسة وأكثر ديناميّة ممّا كان عليه قبلاً؟

لا، بصراحة، هذا النهج الكمّيّ للتعامل مع المسألة لن يفي بالغرض!

حضور الروح في الكنيسة ليس مجرّد «أكثر»؛ ولكنّه أيضًا «مختلف». في نطاق حقيقيّ لهذا المعنى، لا مجرّد نظريّ، لأنّه كان هناك وقت لم يكن الروح القدس «قد أُعطي بعد، لأنّ يسوع لم يَكن قد مُجِّد بعد» (يوحنّا ٧: ٣٩).

يمكننا مقاربة هذه المسألة، عبر المقابلة مع «حالة» تختصّ بالمسيح الربّ. فالمسيح، حكمة الله الأبديّ، الضابط كلّ الأمور بكلمة قدرته، هو لم يكن غائبًا البتّة عن الكون أو عن التاريخ، لأنّ فيه كلّ الخليقة تـنوجد. ومع ذلك، فإنّنا نُدرك بسهولة، ونعترف بحضوره المميّز فينا – الفريد والحصريّ – عبر التجسّد الإلهيّ. التجسّد طريقة جديدة بالكامل ووسيلة لا مثيل لها لـ «سُكنى الله في البشر».

يجب أن يُقال شيء مماثل إذًا عن حضور الروح القدس في الكنيسة، هذا الحضور هو رسميًّا «نوعيّ» (لا كمّيّ)، يختلف عن نشاط الروح في الخلق وفي المراحل السابقة من تاريخ الخلاص. على غرار التجسّد الإلهيّ، فإنّ تدفّق الروح القدس على الكنيسة لا مثيل له. هو غير قابل للنقل، وغير متاح خارج الكنيسة. ومثل الإفخارستيّا، فإنّ الحضور العَنصَريّ (العنصرة) للروح هو جديد وفريد للكنيسة.

في الواقع، هذا الوجود الخاصّ للروح، هو ما يميّز الكنيسة عن كلّ شيء آخر في هذا العالم. «وأنا أطلب من الآب» يُعلن يسوع، «فيعطيكم… روح الحقّ الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنّه لا يراه ولا يعرفه، وأمّا أنتم فتعرفونه لأنّه ماكثٌ معكم ويكون فيكم» (يوحنّا ١٤: ١٦-١٧).

شيء آخر يجب أن يُقال عن مقابلتنا بين التجسّد الإلهيّ وحضور الروح في الكنيسة، لأنّ الموضوع أكثر بكثير من مجرّد تشابُه. وهذان نمطان جديدان من الحضور ليسا ببساطة «قابلين للمقابلة» أو «متشابهين». هما بالضرورة جوهريًّا مرتبطان واحدهما بالآخر، لأنّ التجسّد بذاته هو عمل الروح

القدس: «الروح القدس يحلّ عليكِ»، يُعلن الملاك جبرائيل لوالدة الإله، «وقوّة العليّ تُظلّلكِ، فلذلك أيضًا القدّوس المولود منكِ يُدعى ابن الله» (لوقا ١: ٣٥).

تتقبّل الكنيسة، كهديّة خاصّة من المسيح، ما يملكه المسيح وحده وما يقدر هو على أن يمنحه. الكلمة المتجسّد، هو حامل الروح الفريد، هو الذي نزل الروح واستقرّ عليه. نتيجة لذلك، ابن الله فقط يقدر على أن يعمّد بالروح (يوحنّا ١: ٣٢-٣٤).

هناك خطر كامن في بعض المقاربات الحديثة عن الروح القدس. بعض المسيحيّين يفقدون الرؤية الصحيحة لفرادة الروح القدس وحضوره الحصريّ في جسد المسيح. هناك تصوّر لديهم ممكن ملاحظته في عمليّات البحث عن علامات نشاط الروح في العالم من حولنا: في التطوّرات السياسيّة، على سبيل المثال، وفي الحركات الفلسفيّة، وفي الاتّجاهات الاجتماعيّة، وفي نظريّات دينيّة جديدة!

رغم أنّ ربّنا حذّرنا من أنّ العالم لا يقدر (لا يمكنه) على أن يميّز الروح القدس أو أن يتقبّله. كثيرًا ما نرصد هنا وثمّة، ميل بعض المسيحيّين لاعتبار بعض الاتّجاهات المعاصرة كـ «رسائل» جديدة من الروح القدس!

لا بدّ من أنّهم يغفلون، أنّه مهما يمكن أن يكون الروح القدس، هو دائمًا في صلاتنا، جديد ومُجدِّد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عن فرادة وجود الروح القدس وحصريّته