...

الحقيقة!

 

 

الحقيقة لا تموت، وإن ماتت انبعثت في اليوم الثّالث، أي في ملء الزّمن، المرتئيه ربّك للبنيان، وما ربّك بمستغيَب إذ ليس أحد بخاطف من يد الآب!. الضّامن إيّاها، إذًا، مسيحُك، الناهض من بين الأموات في اليوم الثّالث ختمًا!. لِمَ قام المعلِّم المصلوب في اليوم الثّالث، ولمّا يَقُم لتوِّه؟ عند الآب قام فورًا، والتّعبير الأصحّ أنّه كان حيًّا واستمرّ حيًّا، ومنه، في شأننا، قولة السّيّد: مَن كان حيًّا وآمن بي فلن يرى الموت إلى الأبد!. أيعني ذلك أنّه لم يذق الموت؟ بل ذاق الموت، لكن ملء الحقيقة فيه كان ملء الحياة بحيث إنّه ولو مرّ بالموت، بواقعيّة كاملة، لأنّه ابن الإنسان أيضًا، إلاّ أنّه مرّ به كأنّ الموت لم يكن!. دونك مثلاً الوقت، في حركة دؤوب، يمرّ باللّحظة المحدّدة، هنا والآن، وللتوّ يمتدّ إلى الأمام كأنّه لم يمرّ بها؛ أو كنور الشّمس الّذي العينُ من طبيعته، فإذا ما امتلأتْ منه، استمرّ فيها، ولو خَبِرت العينُ، لضعف البشرة، الظّلمةَ، كلمحة بصر!.
بشريًّا، تأتي الحقيقة كخبرة لأنّها حياة!. مَن عرف الحقيقة ما احتاج، مِن خارجها، إلى ما يؤكّدها ولا قَدِر الغرباء عنها أن يتبيّنوها!. تأكيدها من ذاتها يأتي!. لذا خبر الشّهداءُ الموتَ بفرح!. فرحُهم من الحقيقة المقيمة فيهم استُنبع!. والحقيقة كانت الله، ومن الله كلُّ عطيّة صالحة!. والحقيقة تحدِّث عن ذاتها بعد أن يكون من تملأ منها قد عبر!. في حضورها، فقط مَن هو منها يستعرفها!. أمّا الّذين ما عرفوا الحقيقة، وما بالوا بها، وسُرّوا بالإثم، فإنّها تأتيهم كصنو للموت، كأنّ لا قيمة لها!. لا حقيقة، قال الكاذبون، لأنّهم، لقسوة قلوبهم، ما صدَّقوا الله، فجعل العليّ كذبهم حقًّا، وحقّهم كذبًا لهم، حتّى لا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم، ويرجعوا فأشفيهم؛ قال!.
والحقيقة خفرة!. لا تشهد لنفسها!. أعمالها تتبعها!. تقيم في السّكون!. يُقبَّح عليها وما تُقبِّح!. تسلك كمَن هي دون مَن تُحدِّث عنه!. عينها على قصورها لا على إنجازاتها!. تَقْبل التّعيير ولا تفتح فاها!. لا تطلب المكافأة!. تلوم نفسها لأنّها أقلّ بذلاً ممّا هي عليه!. لا تدين أحدًا!. تبكي على الجميع!. ملؤها المحبّة!. تفرح بالحقّ ولا تفرح بالإثم!. لا تصيح ولا يُسمَع صوتُها في الشّوارع!. تَفِد إلى المحلّة كالطّيف!. لا يشعر بوجودها المنشغلون بأنفسهم!. وحدهم أنقياء القلوب، المقيمون في التّجرّد من ذواتهم، تلوح لهم الحقيقة كالشّهب في وضح النّهار!. لا يُسَرُّ طالبوها بشيء فوق ما يُسرّون بها!. لذا، لهم، بإزائها، في كلّ ما يفعلون ويقولون ويفكِّرون فيه، تقادم!. هي الحقيقة تعطي كلَّ جهد قيمة، وكلَّ مسعًى نَفَسَ حياة!. بلاها لا طعم لشيء!. كالملح من الطّعام نكهةً هي!. وحدها تُخرج الإنسان من قاتوليّة الرّوتين!. المعنى هي تبثّه!. الفرح هي تُضفيه!. السّلام هي تُسبغه!. الحيويّة هي تضخّها!. الثّبات هي تستودعه!. منها كان الخلْق وبها يمضي قدُمًا وإليها يؤول!. الحقيقة هي إيّاه المنعطِف بالجسد على البشريّة!. بتعاطيها نتعاطاه!. في المسيح صرتَ، يا كائنُ، لذا ابنَ الحقيقة أُعطيتَ أن تكون حتّى لا تموت!. الموت ألاّ تعرف الحقيقة!. هي تحرِّرك، وحدها تحرِّرك من الموت!. تعرفون الحقّ والحقّ يحرِّركم!. الحقيقة تصنعك لكي لا تبقى من التّراب وإلى التّراب تعود!. حضارات الشّعوب حفنة تراب أو حفنة ضياء!. أنا نور الحياة!. مَن يأتي إليّ فلا يمشي في الظّلام، بل يكون له نور الحياة!. مَن يعبر العمر ولا يعبر بها، للعبث يكون قد عبر، من الولادة إلى الممات!. الحقيقة نفْسُك!. هي مَن قيل في شأنها: ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه!. هي اللّؤلؤة الكثيرة الثّمن الّتي يبيع الحكيم كلّ لآلئ هذا الدّهر ليقتنيها!. لا شيء يساوي الحقيقة إلاّ حقّ الحقيقة!. هي الحكمة، هي المحبّة، هي الحياة، هي الأبديّة!. في عالم البهرج، خلسةً تأتي، وليدةَ مغارة، في موضع السِقْط، حيث يأنف الأكثرون أن يكونوا!. تحتفّ بهم وما يحتفّون بها!. هي أقرب إليهم من حبل الوريد!. رغم ذلك قلوبهم منها في غير مكان!. يتغنّون بها وما يبالون بها!. يمثِّلون الشّوق إليها وما يتمثّلونها!. يصنعونها أصنامًا ويرفعونها ذبائح على مذابح أصنامهم!. يملأون بطونهم من التّعييد لها، ويتركونها لعازرَ يشتهي أن يشبع من فتات مَن يقتبلها ولو يسيرًا ولا يتسنّى له!. عشراؤها، في هذا الدّهر، المحسوبون سخفاء قاصرين، نجسين، الكلابَ، لذا يبقى مقامُها المذودَ حتّى تغادرَهم، ظاهرًا، وما تغادرُهم في الحقّ، بل هم يغادرونها إلى أرض الظّلمة وظلال الموت، فيما تبقى عينُ الحقيقة عليهم أسًى علّهم يرتدّون!.
ألاّ تبالي بالحقيقة معتبِرًا ذاتك وأهواءك ونوازعك الحقيقةَ، أمرٌ يألفه البراغماتيّون، الّذين همّهم إنجاز ما يصبون إليه، كائنة ما كانت الاعتبارات الأخلاقيّة أو اللاّأخلاقيّة الّتي تعرض لهم أو تعترضهم، ويعبرون بها، بلا إحساس بوطأتها، كما لو لم يكن لها مطرح في قاموس ضمائرهم!. هذا شائع ومعروف في عالم دهريّ استهلاكيّ!. ليست المأساة في هكذا موقف!. هؤلاء صادقون فيما خصّ اعتباراتهم!. لا تخشاهم!. تعرف أنّهم يقربونك تهذيبًا، لكنّك لا تعني لديهم أكثر من مكسب، يُديرون لك، من دونه، الظَّهْر ولا يبالون!. أنت لهم شيء!. تنفعْهم يتّخذوك!. لا تنفعْهم يرتحلوا عنك غير عابئين بك، عشت أم متّ!. المأساة، والعبء الأثقل، المراؤون المخادعون!. الّذين يتظاهرون، من جهة الحقيقة، بغير ما يبطنون، ويبطنون ما لا يكشفون!. الحقيقة، لهؤلاء، مطيّة يرومون بها تحقيق مآربهم!. لا هم يحسّون بالحقّ ولا بوخز الضّمير متى كذبوا!. عبّاد لذواتهم!. يغارون، نفاقًا، على ما لله، ويتمادون حتّى لَيصدِّقوا ذواتهم!. لا فقط يخدعون سواهم، بل أنفسَهم، أخيرًا، حين لا يعود ثمّة خطٌّ فاصلٌ، عندهم، بين الحقّ والباطل، والصّدق والكذب!. العِبرة، لديهم، لا تعود في بلوغ مأرب أو تحقيق مكسب وحسب، بل في متعة الرّياء والارتفاع بالكذب إلى مستوى الفنّ الأسود!. مسعاهم عبادة ذواتهم!. مَن يرومون منك منفعة لأنفسهم، إذا ما وجدوها لديك يجتثّونها ويغادرونك ولو جثّة، وإن لم يجدوها غادروك غير مبالين بك، لأنّك لا تعني لهم، في ذاتك، شيئًا!. أمّا الّذين يخدعونك ويتظاهرون بالغيرة على الحقّ وعليك، وهم المراؤون، فهمُّهم، من حيث يدرون ولا يدرون، أن يفسدوك!. يشاؤونك أن تقتبل كذبهم، في نهاية المطاف، بمثابة الحقّ، والحقَّ بمثابة الكذب!. البراغماتيّون المهذَّبون يُشيعون روح العدم!. يشيِّئون النّاس!. أمّا الدّهماء المراؤون المخادعون، المتلبِّسون بالحقيقة، فهؤلاء يُشيعون روح الشّيطان!. هؤلاء هم أراخنة عمّال الشّرّير في هذا الدّهر، القاصدون التّبعيّة لإبليس، وعندهم أنّه المسيح!. دهاء الشّيطان، في حدّه الأقصى، أن يجعل الأمر يختلط عليك، فتحسب إبليسَ مسيحًا، ومسيحَ الرّبّ شيطانًا!.
مَن هم الّذين يقعون في الفخّ؟ فخِّ رياء المرائي الأوّل، والمخادع الأكبر، والمفسِد الأبرز؟ المائلون إلى عبادة ذواتهم، الأبرار في عيون أنفسهم، المعتادون من الحقّ التّمظهرَ بالحقّ، مَن لا يشاؤون أن يتعبوا ليصيروا لدى ربّهم أبناء!. هؤلاء يوجَدون لقمة سائغة في أفواه المخادعين!. يوهمونهم أنّهم شيء، فيُمسون أبناء بليعال، نفسانيّين لا روح لهم!.
لكن، من المضلَّلين مَن هم سلماء النّيّة، ولو أُخذوا بالخدعة، هؤلاء يستردّهم ربّهم، بطرق هو يعرفها، ولو بعد حين!.
ولكن ويل لمَن يُعثر أحد هؤلاء الصّغار المؤمنين بربِّهم في كلّ حال!.
أنّى يكن الأمر، فالباطل لا يثبت!. لا بدّ لبنيانه من أن ينهار!. له ساعة تأتي!. الباطل ضجّاج أبدًا!. زان يتغنّى بالعفّة، ويتباكى على استقامة لا أساس لها عنده!.
الحقيقة مرذولة أبدًا لدى مَن يعشقون ذواتهم، لكنّها وحدها تثبت!. أمّا الفاسدون المفسِدون فغيوم بلا ماء تحملها الرّياح، ونجوم تائهة محفوظ لها قتام الظّلام إلى الأبد!. ويل لنا إن لم نتب!. تغترّ بنفسك يا أيّها المسكين؟!. ويحك!. لا تعلم ماذا ينتظرك!. رأيت الشّرّير معتزًّا متشامخًا مثل أرز لبنان، ثمّ اجتزت فلم يكن ولم يوجد له مكان!.
اللّهمّ نجّنا وعالمك، والمضلِّلين والمضلَّلين، من الآتي!.

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 14 كانون الأول 2014

 

 

الحقيقة!