...

التوبة السارّة

إذا شئنا الحديث عن روحيّة الصوم الكبير، فقد يكون النصّ العباديّ المعروف باسم “القانون الكبير” (أو قانون التوبة) الذي وضعه القدّيس أندرواس الكريتيّ، الدمشقيّ المنشأ (+740)، خير دليل لنا. فهذا القانون الذي تتلوه الكنيسة في الأسبوع الأوّل من الصوم إبّان صلاة “النوم الكبرى”، وفي يوم الخميس من الأسبوع الخامس للصوم، يقدّم للمؤمنين قراءة روحيّة تربويّة للكتاب المقدّس، مسلّطًا الضوء على فضائل التوبة التي أقدمت عليها بعض الشخصيّات البارزة في العهد القديم. لا يبقينا القانون في العهد القديم بل يعبر بنا إلى العهد الجديد، عهد الخلاص الذي تمّ بتأنّس الكلمة، الربّ يسوع المسيح، وبواسع محبّته ورحمته للبشر.

يتألّف القانون من تسعة أقسام تسمَّى أودية تستند كلّ منها إلى مقطع من الكتاب المقدّس: 1) تسبحة موسى النبيّ (خروج 15: 1-19) يوم عبوره البحر مع الشعب، وفي ذلك رمز إلى مغادرتنا أرض العبوديّة، أي الأهواء والخطايا، كي نسلك نحو أرض الميعاد، أرض الخلاص. 2) تسبحةموسى الجديدة (تثنية 32: 1-43) عند تدوين الناموس، وهذا يرمز إلى ضرورة معرفتنا بالشريعة. 3) صلاة حنّة أمّ صموئيل النبيّ (الملوك الأوّل 2: 1-10) لـمّا ولدت وهي عاقر، وهذا يعني أنّنا على الرغم من عقمنا الروحيّ قادرون بنعمة الله أن نصبح مثمرين بالتوبة. 4) صلاة النبيّ حبقوق(حبقوق 3: 2-19) لـمّا تنبّأ عن تنازل الكلمة، وهذا يرمز إلى الرجاء الآتي بمجيء الربّ الفادي. 5) صلاة النبيّ إشعيا (إشعيا 26: 9-20) لـمّا سبق فعاين وابتهل منشدًا “أيّها الربّ إلهنا أعطنا سلامًا”، فمطلبنا الأوّل هو السلام. 6) صلاة يونان النبيّ (يونان 2: 3-10) عندما صرخ من جوف الحوت، وفي ذلك رمز لفترة لا بدّ من أن نجتازها في حياتنا الروحيّة وهي النزول إلى الجحيم والصراخ من الأعماق. 7) صلاة الفتية الثلاثة القدّيسين في الأتون (دانيال 3: 26-56)، وهذا الحدث يرمز لفترة ندخل فيها في لهيب النار الذي سيطفئه الربّ برحمته. 8) صلاة الفتية الثلاثة في الأتون (دانيال 3: 57-88) لـمّا باركوا الربّ لخلاصهم ودعوا لمباركة جميع أعمال الربّ، ونحن بدورنا نشترك في هذا النشيد شاكرين له خلاصنا. 9) تسبحة السيّدة والدة الإله القدّيسة مريم (لوقا 1: 47-55) يوم البشارة، وصلاة زخريّا النبيّ (لوقا 1: 68-79) لـمّا بارك ولادة ابنه يوحنّا المعمدان.

لا يغفل القدّيس أندراوس الكريتيّ في قانونه عن تذكيرنا بأنّنا على الرغم من صيامنا لا بدّ من أن نكون فرحين، لأنّ التوبة الحقيقيّة تستدعي الفرح بالخلاص الآتي، وأيضًا لأنّ الله يحبّنا بلا حدود. فعمّانوئيل الذي تفسيره “الله معنا” يأتي كي يخلّصنا ويحيينا، هذا هو الفرح الكبير الذي نلمسه حين تلاوتنا القانون: “أيّتها السيّدة، إنّك ولدت الفرح”، و”إيّاك نغبّط نحن جميع الأجيال أيّتها البتول والوالدة ابنًا، بكِ نجونا من اللعنة لأنّك ولدت الربّ فرحًا لنا”. فالتوبة هي أن نجعل القيامة، “التي بها أتى الفرح إلى كلّ العالم” محور حياتنا. وذلك لأنّ الخطيئة الحقيقيّة، وفق القدّيس إسحق السوريّ، هي أن لا نولي القيامة انتباهًا كافيًا.

يركّز القانون الكبير، إذًا، على التوبة التي تجعلنا نلبس المسيح منذ الآن، ونحن في فترة الصوم، وتُدخلنا قبل الآوان إلى سرّ الفصح، سرّ الحياة المنبثقة من القبر. كما أنّ هذا الفصح الذي نحياه منذ الآن، عبر مشاركتنا في أسرار الكنيسة وعباداتها، يجعلنا على مثال إنسانيّة الربّ يسوع الممجّدة على الصليب. الفصح هو أرض الميعاد، الأرض التي سيحصل عليها الصائمون السالكون في التوبة بعد أن يسعوا إلى اكتساب الفضائل بنشاط، “فيبلغون هكذا إلى معاينة قيامة المسيح الإله المجيدة”، وفي هذا السياق يقول القدّيس أندراوس: “يا نفس جوزي طبيعة الزمان، واملكي أرض الميعاد، هكذا يأمر الله”.

يؤكّد القانون على أهمّيّة النسك والتقشّف في الممارسة الصياميّة. فالأدب الآبائيّ والنصوص العباديّة تتّفق على القول بأنّ آدم تلّقى في الفردوس وصيّة الصوم إذ كان يتوجّب عليه أن يضبط شهوته كي لا يرى العالم فريسةً سائغة، بل يراه قربان شكر لله. خطيئة آدم قامت على الاقتناء والاستهلاك بدلاً من العطاء والمشاركة. أمّا آدم الثاني، الربّ يسوع، فبالعكس من الأوّل، بدأ بشارته بالصوم أربعين يومًا في البرّيّة، من هنا يقول: “إنّ الربّ لـمّا صام في القفر أربعين يومًا جاع أخيرًا مظهرًا بذلك الطبع البشريّ. فلا تسترخي يا نفس وإنْ هجم عليك العدو (الشيطان)، بل صادميه بالصلاة والصوم فيندفع عنّك بالكلّيّة”.

مع تأكيده على أهمّيّة الصوم المادّيّ عن الطعام، لا يغفل أندراوس عن الإشارة إلى أنّ الصوم لا يكون كاملاً من دون الصوم عن الخطيئة، أو من دون مساعدة الفقراء. فيقول: “سبيلنا يا نفس أن نصوم عن الشرور”، وأيضًا: “حان وقت التوبة، وجهاد الصوم يسبّب لنا حياة أبديّة إنْ بسطنا أيدينا إلى الإحسان. لأن ليس شيء ينقذ النفس كمؤاساة المحتاجين. والرحمة إن امتزجت بالصوم تنقذ الإنسان من الموت”. الصوم بفرح عن كلّ الأهواء، هذه هي الخلاصة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التوبة السارّة