...

البشريّة والجنون وقطيع الخنازير.

 

   لماذا الجنون؟!.

 

    لماذا الشّر وفعله في حياة الإنسان؟!.

 

    لماذا الشياطين؟!.

   

من أين نبدأ؟!.

 

    أَمِنَ السّقوط؟!: أم من هلاك البشريّة بعد مئات آلاف السّنين من وجودها على الأرض؟!. أم من بدء الحضارات، ولا يضبُطُ التاريخُ من أيّ أيّام أعاد الله خليقته عن غيّها إليه مُثنى وثلاثًا مُنتظرًا وسائلاً… أهل ٱرتدعت؟! أهل خبرت موتها وسقوطها في جب إهلاك الشرّير لها إذ ٱتّبعته، ليَجُرَّها إلى ظلماتِ الهاويةِ للاختناق شيئًا فشيئًا في ذاتها، إذ صارت هي جزءًا لا يتجزّأ من حركة الشرّ الكونيّة؟!.

    صارت البشريّة، في ابتعادها عن ربِّها، شرًا من الشّرّير!!. موتًا من موته هو فيها!!. رغم أنّها لم تفقد التماعاتها الإلهيّة تمامًا!…وتحوَّلَتْ المسكونة إذ ٱتحدّت بالشّرّير، جزءاً لا يتجزّأ منه… فصارتِ الأجيالُ تولِدُ ”الشيطان الشّرّير“، بألف شكل وشكل، ولون ولون!…

 

    لوّنَتِ الحقيقة والحق بمولوديها الجُدُد الّذين صاروا آلهتها… الشيطان وزبانيّته!!…

 

    وٱختلطت دماء السُّمِّ والقيح والمرض والكذب والتسلّط على البشر وقمعهم لإبادتهم بإلهائهم عن رفع رؤوسهم، للركض وراء النّور والحق الإنجيليّ للوصول إلى الفرح، فصاروا يخافون المرض والعوز، يتزلّفون أمام الآلهة الجديدة الّتي ابتدعوها… آلهة المال والسّلطة والحرّية الجنسيّة، للتّفلّت… غيّبوا الوصايا الإِنجيليّة، أحكموا الخناق على رقاب الشّعوب…أهدوها الموت!!.. هكذا ماتوا هم تاليًا فمات الإِنسان!!.

    وفي موتهم هذا، أماتوا الحياة، لأنّهم ٱنجرّوا إلى عدميّتهم… أحبّوا، بل عشقوا الظلمة. دخلوا في بوتقة العتمة، عتمة أهوائهم وأجسادهم وأحاسيسهم ، الّتي تتولّد من ذاتها لتُفني ذاتها، لأنّها من الشرّير وُلِدَتْ، في موته فيها ولِولادته منها مرّة بعد مرّة…صار الإِنسان مولد الشّر… إذ ماهى نفسه بالشّرير!!…

 

    ماذا تبقّى؟!… كيف وأين الحياة؟!…

 

    إن كانت الحياة في ذاتها مائتة، فقد صارت هي موتًا، بل الموت عينه، بالشّرّير الّذي ٱجترأ عليها من أيّام فردوسها، ليُفنيَها، لأنّ الحيّة الشيطان، بل ملاك النّور البهيّ الّذي سقط من عن وجه الإله بسبب توقه إلى لُبْسِ الكِبَرِ الإلهي من ذاته وبذاته، لم يهدأ ليقول للإله: أتريد أن تمنحني عظمة نورك ووجودِكَ؟!… لكنّه ٱجترأ بوقاحة أهل الأرض وما تحت الأرض… ٱجترأ على الإله، لأنّه كان في الإله ومعه وعنده حين ٱستعلى مُستكبِرًا تائقًا إلى الألوهة، ظانًا أنّه هو إله من الإله، بل هو والإله واحد، بل هو الإله وحده!!!…

 

    هكذا مات الإِنسان مميتًا معه ذرّيته إذ أولد الشّر في سلالته مضاعفًا…

 

    هكذا تولَّدَتِ الكذبة الكبرى بالدّالة والتعدّي بروح الغضبيّة الّتي في الإنسان!! تولّدت إذ جمعت أشلاء وفتات الحياة من بطن الأرض وعن وجهها لتقول: أنا من العدمِ خُلِقْتُ، وأَوجدتُ إنسانًا… والإنسان هذا سيمتشق الحياة راكبها حصانًا متفلّتًا يطال بجموحه أعلى مجرّات السّماء؛ وفي نزوله، كان يغرق في طحلبيّة وعتمة أهوائه!… بل في ذاته الميتة في العدميّة المنبثقة من الظلمة وعتمات الموت والإهتراء والدود الآكل وجه الحياة، وجه الشمس والنّور الإلهي الحقيقي، إذا التقى الشرّير مهيمنًا على النّفس…

    هكذا تاليًا ٱعتلى الشيطان، ملاك النّور المزيّف، أعالي السّموات، فطال الكذبة الّتي خلقها… كذبة ربوبيّته وألوهته، وإذ صَمَتَ، وعى إلى أين أوصل نفسه، فغضب لأنّه أُقفل عليه دون الفردوس، بسبب وقاحته وٱستعلائه على روح الإله الخالق…

    ثمّ عاد ودخل الشيطان “عنوة”، في الخليقة، إذ صادقها فارشًا أمامها أطايب ومطربات ولمعان كذبته الّتي ألبسها “اسم حضارة الإنسان”… فتساوى فعلُ الخير الّذي هو الوجود الحقيقي للإنسان، مع الشرّ الّذي هو بدعة وصرعة وجمال الحضارات الفاسقة الكاذبة المستعلية على الإله باتّباعها خلق المائت في الصّناعات وإبداعها، ليُري الإله أنّه هو أيضًا يخلق…

    هكذا أمات الإنسان خالقه الّذي أبدعه، وٱتبع ما غرسه الشيطان في وهم فكره، الّذي أحسّ من خلاله أنّه ذو جسد حيّ، يَغْوي ويُغوى، يُمثِّل الحبّ وهو ينفث السّمّ الزعاف في ٱبتسامة الكذبة، حتّى يُسقط الإله في كلّ إنسان أَحسَّه مصلّيًا لأجله وعابده بالرّوح والحق!!.

    وٱنقسم الحبّ!!، تجزّأ الرّوح وعمَّ السّقوطُ في الخليقة بأَسرها!! وكان لا بدّ أن يصرخ الإله!!:

    ”تعالوا إليّ أيّها المتعبون والثّقيلو الأحمال وأنا أريحكم“ (متى 28:11).

    أين كان الإله؟! لماذا تأخّر في الإستجابة و سماع النّداء، حتّى يخلِّص ما قد هلك؟!.

    البشريّة كلّها هلكت والإنسان عَبَدَها وسَيّدَها وفضَّلها على روحه، على سلام قلبه.

    لذا أتى الإله يسوع المسيح إلى كورة الجرجسيّين… اليوم… لأنّ كلّ أيّام السّقوط ستبقى يومًا واحدًا…

    خرج النّاس لاستقباله في مجنونين خرجا من مسكنهما، من الموت، من القبور!!. مَنْ يسكن القبور إلاّ الحيّات والدّود والعفونة؟!. قطعوا الطريق على المارّة حتّى لا يمرّوا بها… أحرقوا الأرض، مقدِسَ الإله، زارعين فيها كلّ ما ورثوه من نجاسة ساكنهم… وإذ أطلّ يسوع عرفاه، بل عرفوه، جمهرة الشياطين السّاكنة في الرّجلَين… وصاحا بالإله: “أجئت إلى ههنا قبل الزمان لتعذّبنا”؟!.

    وصار هذا اليوم بهذا الحدث مخوفًا… إذ أسلم الإِنسان نفسه للسّقوط، مستحليًا الموت على الحياة!!.

    الشّياطين يعرفون الزمان والإله خالق الزّمان والمكان والإنسان… لكنّهم قلبوا معايير الحياة إلى موت…

    أيّتعذّب الإنسان الحيّ المولود من روح الإله إذا شُفي؟!.”ويل لي من يخلّصني من جسد الموت هذا؟!“ (رومية 24:7).

    يطلبون الإله وحده!!إبن الإله والمؤمنون… ماذا منهم ولهم؟!… وصدحت أصواتُ كلّ المُعَذَّبين من أهل الأرض بصراخِ هذين الرّجلين!!… عذابهم كان أنّهم عرفوا يسوع، بل أَحسّوا بشيطانيّتهم بوجه المسيح الآتيهم بروح الحق… أدركوا أنّ ٱختفاءهم للموت في أجساد البشر وتخليص الإله للأجساد المائتة بهم، لن يميتهم لذا صرخوا: “إن كنتَ تُخرجنا، فائذن لنا أَن نذهب إلى قطيع الخنازير!!”.

    وأمرهم يسوع قائلاً:” ٱذهبوا… فخرجوا وذهبوا إلى قطيع الخنازير فإذا بالقطيع كلّه قد وثب من على الجرف إلى البحر ومات في المياه.”

    “الشيطان” هو ملاك ذو وجهين وهو إذ سبق فوعد آدم وحوّاء بالحريّة الكذبة، صار حيًّا منذ السّقوط، لحظة أنكر الإنسان ربوبيّة الإله عليه…

    لذا هو يدخل وعاء الجسد البَشَرّي، فكره، أو قلبه، أو كيانه بكليّته وضميره، ليخرّب هذا البيت مسكن الإله في الإنسان الّذي دخله… وإذ يطرده الإله من كيان وقلب الإنسان، يرحل مُنتظرًا أن يعود!… وإذ يعود يجد المنزل مكنوسًا مزيّنًا…يرحل ويعود ليأتي بسبعة شياطين أشرّ منه.

    أيبقى الشيطان مكانه في هذا الكون، مستوطنًا الإنسان؟!.

    أننسى أنّه واجه الرّب يسوع بعد ٱعتماده في نهر الأردن ليُركِعَهُ لسلطته وفَشِلَ؟!.

    وإذ سمح له يسوع بالدّخول في قطيع الخنازير، وَثَبَ كلّ القطيع من على الجرف وغرق في البحر!!.

    هل ماتت الشياطين مع الخنازير في مياه البحر؟؟!!…

    وٱشتكى الرّعاة لأهل المدينة!!. فخافت المدينة من فعل الإله، لأنّه إذا مات قطيع الخنازير من سكنى الشياطين فيه، فماذا سيكون لهم إذا طَرد الإلهُ الشياطينَ منهم هم؟! فكر راودهم؟!…

لأَنّ خسارة قطيع الخنازير كان أهمّ من خلاص الرّجلين، وتحرّرهما من الموت الأبدي ومن العذاب اليومي!!. وخسارة الحياة الأبديّة!!…

    مات حِسُّ الحياة في ”تلك المدينة“، و”الكورة“، حتّى بوجود الإله فيما بينهم شافيًا!. رفض الإنسان الخلاص حتّى من موته!!!.

    فتركهم الإِله مجتازًا إلى مدينته… إلى أورشليم العلويّة!!!.

    وبقيت الشّياطين ضعيفة على غالبيّة أهل وأبناء الأرض…

    لذا نحن كلّنا الّذين غادرنا مساكن آبائنا، نعود لنلتئم حوله صارخين: إن عشنا فمنك يا يسوع نحيا، وإن متنا… فللقائك نموت…

    إن عشنا وإن متنا… فنحن لك…

 

الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان

عن “تأملات في الإنجيل”، 9 تموز 2017

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البشريّة والجنون
وقطيع الخنازير.