...

كلمة الراعي الكنعانيّة: قدوة وشفيعة وأمّ حكيمة

 

في الإنجيل المعروف بالكنعانيّة، نلامس عربونًا لقيامة الإنسان بالمسيح. بالفعل، هل لك أن ترى كيف يخرج من قاعة المحكمة مَن كان محكومًا عليه حكمًا مبرمًا وقد حصل على أكثر من براءته، إذ حصّل كرامة أرفع وأسمى ممّا له، واعتبارًا أثمن وأبقى ممّا قد يراوده؟ حادثة شفاء ابنة الكنعانيّة تساعدنا على الاستدلال على طريق قيامتنا اليوم.

لقد امتدّت المرأة الكنعانيّة نحو المسيح امتدادًا لم يحلْها عن تحقيقه لا كونها من خارج ملّة اليهود أو كونها امرأة، ولا موقف التلاميذ المتذمّر من التماسها الرحمة من المسيح بإصرار. لم يثنِها شيء عن أن تناديه صارخة: «ارحمني يا سيّد يا ابن داود. ابنتي مجنونة جدًّا» (متّى ١٥: ٢٢).

استمدّت قدرتها على الامتداد نحوه من استعدادها الكبير لأن تتفانى كرمى ابنتها حتّى الاتّضاع الأخير، خصوصًا باستخدام يسوع صورة رمي خبز البنين إلى الكلاب (متّى ١٥: ٢٦)، والتي تشير إلى النجاسة التي تأتي منها المرأة الكنعانيّة بداعي الطقوس الوثنيّة التي يمارسها أهل شعبها. وامتحنها يسوع أيّما امتحان، فنالت الإكليل الذي حصل عليه الفتية الثلاثة القدّيسون في الأتون، بقيامتهم أحياء من الأتون المتّقد. اختارت الكنعانيّة أن تقبل المعنى المضمور في كلام المسيح والصورة المشار إليها، وأخذت على عاتقها إثم شعبها واحتملت العار الآتي من أن توسم بنجاسة أمّتها. لم تدافع عن نفسها ولا برّرت نفسها، بل اختارت أن تأخذ على عاتقها هذا الإثم، بالإضافة إلى ما تعانيه ابنتها.

أظهرها يسوع، بهذا الامتحان، «قريبة» منه، فهو أخذ على عاتقه خطيئة الإنسان كلّها وافتداه منها. انظروا كيف احتملت الكنعانيّة نار الاتّهام بقبولها الاتّهام واتّضاعها حتّى النهاية عندما أشارت إلى المسيح بأنّها، وإن كان لا يُرجى منها خير، إلّا أنّها آثرت أن تكون خياراتها صحيحة وطمحت أن تُعطى هذه الفرصة، بقولها: «والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها» (متّى ١٥: ٢٧). هذا إقرار بنجاستها، من جهة، وبرغبتها، من جهة أخرى، في أن تكون قرب مَن يسعهم أن يغذّوا جوعها إلى القداسة.

ربّ قائل إنّ الكنعانيّة افتدت واقعًا بأكمله وعالمـًا برمّته، في الوقت الذي كانت نقطة البداءة متمحورة حول شفاء ابنتها. لم يتشعّب الموضوع، بل ذهب إلى العمق الذي يجيب طلب الكنعانيّة في حوارها مع يسوع: بأن تأكل من فتات الخبز. هذه الحادثة قادتنا من هذا العمق إلى اكتشاف قدرة شفاعة هذه المرأة وإلى أن نختارها مثالًا لأجيال بعدها. فهل نتبنّى هذه الشفاعة، المستقيمة روحيًّا والصالحة في كلّ آن، أمام أيّة معاناة نعيشها في سعينا إلى أن نلتمس معونة الله، خصوصًا إذا ما واجهنا الربّ بتقاعس لدينا ونجاسة فينا؟

نقلنا يسوع بالمرأة الكنعانيّة إلى ظفر كظفر القيامة، بتطويبه إيّاها: «يا امرأة، عظيم إيمانك! ليكنْ لكِ كما تريدين» (متّى ١٥: ٢٨). أمّا هي فقد نقلتنا باتّضاعها من صعيد إلى آخر، من جحيم الغربة عن الله إلى فردوس الإيمان به، من النجاسة في العبادة إلى القداسة في التوجّه والموقف. أليس في هذه الخاتمة عربون قيامة يبشّر بالعافية والكرامة التي يقدّمها يسوع للإنسان؟

عند هذا المفترق في حياة الكنعانيّة، فاح عطر فرح قيامتها في أرجاء تلك التخوم المتغرّبة عن الإله الحقيقيّ والعبادة المقبولة منه. وهي استحالت علامة فارقة بين الذين هم من أهل الإيمان ومَن هم بعيدون عنه، وهي تدعو هؤلاء وأولئك على السواء، إلى الانطلاق بانسحاق وشجاعة وإصرار من جحيم العذاب وسلوك طريق الاتّضاع والتوبة وترجّي الله بإيمان. هكذا تقتنصنا إلى يسوع وتعلّمنا أن نقبل الامتحان الحاضر بحكمة وصبر وامتنان، فتكون عرّابتنا إلى الشفاء من غربتنا عن الله، كما كانت عرّابة ابنتها في رحلتها نحو الشفاء.

يضعنا امتحان الكنعانيّة أمام حقيقتنا. فمن جهة، هناك امتحان واقعها الشخصيّ المتمثّل باعتلال ابنتها، ومن جهة أخرى هناك امتحان نجاسة بيئتها والمتمثّلة بالوثنيّة. إنّهما واقعان حاضران في حياتنا اليوم. فهل نمتدّ في شقائنا نحو المسيح بإصرار كما فعلت هي؟ إيمانها الكبير نقلها من الهامش إلى أن تكون القلب النابض في الكنيسة، كنيسة القيامة، فهل نتبع في إثرها فننتعش كما انتعشت هي، وننعش معنا أترابنا كما أنعشت ابنتها بموقفها؟ هلّا قبلنا أمومتها وشفاعتها اليوم من أجلنا؟ هلّمَّ بنا إذًا نسجد للربّ مثلها ونتبنّى دعاءها باستمرار: «يا سيّد، أعنّي» (متّى ١٥: ٢٥)!

+سلوان مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: ٢كونثوس ٦: ١٦-١٨ و٧: ١

يا إخوة أنتم هيكل الله الحيّ كما قال الله إنّي سأَسكن فيهم وأسير في ما بينهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا، فلذلك اخرجوا من بينهم واعتزلوا يقول الربّ، ولا تمسّوا نجسًا فأقبلكم وأكون لكم أبًا وتكونون أنتم لي بنينَ وبنات يقول الربّ القدير. وإذ لنا هذه المواعد أيّها الأحبّاء فلنطهّر أنفسنا من كلّ أدناس الجسد والروح ونكمّل القداسة بمخافة الله.

 

الإنجيل: متّى ١٥: ٢١-٢٨

في ذلك الزمان خرج يسوع إلى نواحي صور وصيدا، وإذا بامرأة كنعانيّة قد خرجت من تلك التخوم وصرخت إليه قائلة: ارحمني يا ربّ يا ابن داود، فإنّ ابنتي بها شيطان يُعذّبها جدًّا. فلم يُجبها بكلمة. فدنا تلاميذه وسألوه قائلين: اصرفها فإنّها تصيح في إثرنا. فأجاب وقال لهم: لم أُرسَـل إلّا إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل. فأتت وسجدت له قائلة: أغثني يا ربّ. فأجاب قائلًا: ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويُلقى للكلاب. فقالت: نعم يا ربّ، فإنّ الكلاب أيضًا تأكل من الفُتات الذي يسقط من موائد أربابها. حينئذ أجاب يسوع وقال: يا امرأة عظيم إيمانك فليكن لك كما أردت. فشُفيت ابنتُها من تلك الساعة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

الكنعانيّة: قدوة وشفيعة وأمّ حكيمة