...

ماذا أراد المعمدان بقوله “يأتي (يسوع) بعدي” (متّى 3: 11)؟

هل أن يشير إلى أنّ ولادته من أمّه أليصابات تمّت قَبْلَ أن تلد مريمُ يسوعَ، أو إلى ظهوره قَبْلَهُ؟ أو يمكن أن نشتمّ، في قوله، أمرًا آخر؟

لا يعوزنا أن نؤكّد أنّ ما يُظهره العهد الجديد أنّ يوحنّا وُلد قَبْلَ يسوع بستّة أشهر، وكرز بالتوبة قَبْلَهُ أيضًا. ولكنّنا، هنا، لا نريد أن نقرأ قوله على ضوء مَنْ وُلد قَبْلَ مَنْ، بل على ضوء حُلم راود بعضًا في زمانه. فالمرجّح أنّ ثمّة، في اليهوديّة التي عاصرت ظهور السيّد، مَنْ كان يحلم بأنّ الله سيرسل “المسيّا” بعد أن يسكن الناس إلى طُهره. هل دعوة يوحنّا إلى التوبة تتضمّن تأثّرًا بهذا الحلم؟ لنفترض!

إذًا، قال: “يأتي بعدي”. ونعرف أنّ يسوع، قَبْلَ أن يستقرّ قول يوحنّا في آذان سامعيه، كشف أنّه هنا الآن. فـ”في ذلك الوقت”، يقول متّى الإنجيليّ ببلاغة مقصودة، أي في الوقت الذي كان المعمدان يُطلق صوته في براري وجودنا، “ظهر يسوع” (3: 13). لقد تخطّى الآتي الأحلام اليهوديّة كلّها، وقال شيئًا آخر، شيئًا جديدًا بالكلّيّة، شيئًا يشبه الله الذي لا يشبهه آخر. كشف أنّه، هنا، يأتي إلى الناس جميعًا، الذين ينتظرونه والذين لا ينتظرونه، أي كشف أنّه هو نفسه باعث الطُهر في الأرض ومحقّقه في آنٍ. وهذا يبدو ساطعًا في ما أخذه الإنجيليّ الرابع من فم المعمدان، أي قوله: “يأتي بعدي رجل قد تقدّمني / لأنّه كان من قبلي” (1: 30). فعلى كون يوحنّا يلتزم في مسرى إنجيله الفذّ ما جرى في التاريخ التزامًا واقعيًّا، إلاّ أنّه يقرأ الحدث الخلاصيّ قراءةً لاهوتيّة. وأمام هذه القراءة، يتجاوز التاريخ البشريّ من دون أن يُلغيه. أمامها، يغدو التاريخ كلّه إعدادًا لمجيء مَنْ هو، وحده، “حَمَلُ الله الذي يرفع خطيئة العالم” (يوحنّا 1: 29). أي أمام هذه القراءة، يبدو المعمدان وراء، ويسوع، القائم قَبْلَ كون العالم، قائمًا في حاضر مستمرّ.

هذا يمكننا أن نكتشفّه في كلِّ قولٍ قاله يسوع، وفي كلِّ حركةٍ تَحَرَّكَها وعملٍ قامَ به. كلّ ظهور له هو ظهور خلاصيّ، أي دلّ فيه على أنّه لا ينتظر من هذا العالم شيئـًا، ليظهـر. شيئـًا، أي أيَّ شيء. واللافت أنّ كلّ مَنِ اختارهم ودعاهم إلى أن يتبعوه، وكلّ مَنْ حاورهم وردّ على أسئلتهم، وكلّ مَنِ اجتمع بهم وأكل على موائدهم، وكلّ مَنْ أعطاهم سؤل قلوبهم، وكلّ مَنِ انعطف على مصاعبهم وانحناءاتهم وآلامهم، لم يشترط عليهم شيئًا. كان يُقدّم إلى الجميع كلّ شيء مجّانًا، من دون أن يستحقّ أحد تقدمته. دلّ على أنّه هو الذي يحكم الزمان والمدى واللقاء وما يريده في أيّ لقاء. هو وليس أيّ أحد آخر. فليس من أحد قَبْلَه، لا المعمدان ولا أيّ إنسان آخر، يحقّ له أن يعتبر أنّ أمور الله قد بدأت معه. يسوع، وحده وحده، هو “الألف والياء، والأوّل والآخِر، والبداءة والنهاية” (انظر: رؤيا يوحنّا 22: 13).

“يأتي بعدي”، التي شكّلت رسالة المعمدان، (افترضنا أنّها) كانت تستدرّ طهرًا يتعلّق تحقيقه بزمانٍ يقصر أو يطول. وتجاوزها يسوع رحمةً، وأرسى زمان الله الذي فيه. أتى فجأةً، قلنا. وفتح باب بيت أبيه على مصـراعيـه. فتـحه لجميـع النـاس. وخـصّ بودّه الصيّادين وجباة الضرائب والمحتقَرين والزواني والمنجَّسين والمهمَّشين وَمَنِ اعتُبروا “أَعداء الأمّة”. لم يهمل دعوة المعمدان إلى التوبة، بل تبنّاها في شخصه الطاهر. أظهر نفسه واحدًا مع المدعوّين إلى أن يتوبوا! قال يوحنّا كلامًا طيّبًا فيه. عظّمه كما يليق به. أقرّ بأنّه: “أقوى منّي”. “لستُ أهلاً لأن أَخلع نعلَيْه”. “سيُعمّدكم بالروح القدس والنار”. “بيده المِذْرى يُنقّي بيدره، فيجمع قمحه في الأهراء. وأمّا التبن، فيُحرقه بنار لا تُطفأ” (متّى 3: 11 و12). وحمل يسوعُ نفسَهُ إليه، ليعتمد منه. بلى، مانعه المعمدان بقوله: “أنا أحتاج إلى أن أَعتمد عن يدك، أَوَأنت تأتي إليَّ؟”. لكنّه ردّ ممانعته بقوله: “دعني الآن وما أريد، فهكذا يَحسن بنا أن نُتمّ كلّ برّ” (3: 13- 15). كيف “هكذا”؟ باختياره، بارًّا، أن يكون واحدًا مع الناس الذين رفع يوحنّا صوته، وناداهم! أي بإعلانه أنّه المخلِّص الذي لن يستعمل المذْرى الآن، بل يريد أن يرى الناسُ فيه أنّ الله يحبّهم، يحبّ كلاًّ منهم حبًّا لا مثيل له. أي بقوله للكلّ: أنا أردت أن آتي إليكم كما أردت، أنا (بلا خطيئة) واحد منكم، وإرادتي أن أرفعكم إلى مَنْ أرسلني إليكم، إلى أبي الذي يريدكم أن تقبلوه أباكم بقبولكم خلاصي المجّانيّ!

هل هذا يعني أنّ يوحنّا عمّد يسوع عن غير قناعة منه؟ لو لم يقتنع، لَما انصاع إليه! وإذًا، ماذا أُعطي المعمـدان أن يفهـم؟ أُعطي أنّ هذا الآتي (بعـده) إنّما هـو الإله الحاضر الذي لا يأتي وحده، بل يحمل البشريّة معه وفيه. “يَحسن بنا أن نُتمّ كلّ برّ”، تكشّفت له أنّ البرّ بات يمشي، الآن، في إلهٍ ارتضى أن يمشي على دروبنا، يحملنا وخطايانا، ويدعونا إلى رحاب رحمته وحبّه. أُفهم أن ليس من برّ كامل قَبْلَ يسوع إلهه وإلهنا. كلّ برّ قَبْلَهُ تمتمة. لقد نادى يوحنّا بأن تُعَدّ طريق الربّ كما

نادى الأنبياء قديمًا (إشعيا 40: 3)، واستبان، أمامه، مَنْ هو الطريق (يوحنّا 14: 6). أُفهم أنّ خارطة العودة إلى الله لا يُحقّقها أناس، أيًّا كانوا، طاهرين أو خطأة، بل شخص وقف عاريًا أمامه في لحظة، اختارها، كانت، هي هي، ملء الزمان.

لقد نادى يوحنّا بمعموديّة التوبة استعدادًا للآتي بعده. أمّا يسوع، فكسر كثافة الأزمنة، وأظهر أنّه، الآن هنا، يريدنا كلّنا له. أظهر أنّه لم يأت ليدين الخطأة، بل ليُخلِّص العالم بالمحبّة التي لا تبخل بالدم. هذه، في زمان العهد الجديد، مهّد لها المعمدان، ليصنع الربّ، في شخصه المبارك، كلّ شيء جديدًا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ماذا أراد المعمدان بقوله “يأتي (يسوع) بعدي” (متّى 3: 11)؟