...

كهنوت ملوكيّ

في لغة كنيستنا، لا مكان للكلام على أنقاض الفعل. هناك كثيرون بيننا تعوّدوا أن ينتقدوا كلّ شيء كنسيّ كما لو أنّهم من كوكب آخر. ما هو حلّ هذا المرض؟ كيف نذكر أنّ الأرض تُنبت ما فيها؟ أي إن انتقدنا الكهنة مثلاً، كيف نذكر أنّهم، صالحين أو طالحين، ثمرةُ أرضٍ كلُّنا منها؟ مَن يعيد إلينا أنّ المؤمن، إذا سمع صوت الانتقاد يدوّي في الكنيسة، لا يفصل نفسَهُ عنه، بل يتذكّر أنّ الالتزام فعل؟!

هذه العبارة، التي أخذتُها من العهد الجديد عنوانًا (١بطرس ٢: ٩)، تأتي، من جهة، في سياقٍ يكشف خساراتِ شعبٍ قديمٍ رفضَ المسيحَ إلهًا ومخلّصًا، وتُظهر، من جهة أخرى، غنى المكانة التي ورثها شعب جديد يجمعه أنّه للمسيح. أجل، المسيحيّون هم جماعة كهنة يملكهم ربّهم. هذا لا يخفي أنّ ثمّة في الكنيسة مواهب خاصّة (الكهنوت الأسراريّ)، بل يذكّرنا بأنّ لنا شأنًا، أي عملاً، في الخدمة، خدمة الله. قلنا، مرارًا، إنّ الحياة في الكنيسة ليست مكانًا يكتفي فيه المؤمنون بمشاهدة ما يجري فيها. الحياة عمل. هذا معنى عبارة «كهنوت ملوكيّ». فهذه لا تُفهم في سوى المشاركة في الخدمة الإلهيّة وامتداداتها.

لم أنشئ هذه السطور تفسيرًا لهذه العبارة (كهنوت ملوكيّ) التي لم يتردّد في التاريخ الأنطاكيّ الحديث، حبًّا بالله واستقامة حياتنا في المسيح، صدى عبارة كما تردّد صداها. إذا شئتم كلامًا دقيقًا في توصيف تاريخنا، فنحن، منذ أربعينات القرن المنصرم إلى اليوم، نأتي من تردّدات صدى هذه العبارة في أمور كثيرة في حياتنا الكنسيّة. فهذه دلالتها محكمة أنّ كلّ عضو في كنيسة الله مسؤول عنها كلّها، أي له عمل في شعب الله مثله مثل أعلى قياديّ فيها. هذا، وحده، إن اخترنا أن نحيا واعين، لا يردّ عنّا فقط تأفّفاتٍ كثيرٌ منّا يعتقد أنّ غيره مسؤول عنها، بل يقيمنا، أيضًا، في قلب خدمة لا معنى لوجودنا من دونها.

لا أريد أن يشتمّ، في سطوري، أنّني أشجّع على أن يدعو الإنسانُ نفسَهُ إلى الخدمة الكهنوتيّة، مثلاً. هذا يخالف ما جاء على لسان الرسول أنّ «ما من أحد يتولّى بنفسه هذا المقام، بل مَن دعاه الله كما دعا هارون» (عبرانيّين ٥: ٤). لكنّني أرجو كثيرًا أن يرى فيها الإخوةُ كلُّهم بأجمعهم تشجيعًا قويًّا على حسن الالتزام الذي يكشف المواهب، ويحتضنها، ويطلقها، وينمّيها. هذه هي الحياة المسيحيّة. كلُّها التزامُها، أي كلُّها تخصّنا أنت وأنا. فالله، في معموديّتنا، لم يكتب علينا شيئًا أبلغ من هذه البلاغة.

ربّما يحتاج بعض القرّاء إلى أن يقرأوا: «كلّنا، بمعنى من المعاني، كهنة». إن كان لا يحقّ للمؤمن أن يدعو نفسه إلى خدمة ربط اللهُ الدعوةَ إليها بنفسه، أي بأساقفة الكنيسة وشعبها الحيّ (أي ليس بأحاسيس المؤمن وتصوّراته)، فلا يحقّ له، أيضًا، إن سمع صوت الله يدعوه إليه، أن يصمّ أذنيه، بل أن يستجيب فورًا. الدعوةُ استجابتُها فورًا. «قال له اتبعني»، «فقام وتبعه»، هاتان العبارتان تصوّران لاهوت الدعوة كما أظهرته كتبنا. هذا يوضح معنى أنّنا «كلّنا كهنة»، أي يبرز بُعْدَ الالتزام الشخصيّ الذي سماته تغطّي هذه السطور. سأعطي مثلاً عمليًّا عمّا أقوله هنا: إن مرضت والدة، لا يحقّ لأيٍّ من أولادها أن ينتقدها على أوساخ يراها في البيت، ويدير ظهره كما لو أنّ ما انتقده من مسؤوليّة غيره. المؤمن لا يكتفي بالإشارة إلى وسخ يراه، بل يرى أنّ ما من شيء أصلح للحياة من أن يخدم الله الحيّ في جماعته!

هذا لا يليق بنا أن ينسينا أنّ هناك مساحاتٍ في الكنيسة تمكّن الناس من أن يغدوا أفضل. هذا إيماننا، أو نكون لا نفهم شيئًا منه. ومن هذه المساحات، بل أعلاها على الإطلاق أن نُشعر الناسَ إخوتَنا، وأوّلهم

الذين لهم نصيبهم في خدمتنا، بأنّنا نحبّهم. في حياتي، عرفت أشخاصًا عديدين تولّوا غير مقام في الكنيسة. معظمهم سُمعت عنهم انتقاداتٌ تجرح. ومن هؤلاء أنفسهم عرفت أشخاصًا حوّلتهم محبّة إخوتهم إلى قامات جديدة. هذا، إن لم نصدّقه بل إن لم نقبله دستورًا لحياتنا، نكون، شكليًّا، أعضاء في كنيسة الله. المسيحيّة عمقها، أي جوهرها، أن نحبّ. صدّقوا، صدّقوا. هذا يصنع المعجزات.

«أمّا أنتم، فإنّكم ذرّيّة مختارة وكهنوت ملوكيّ وأمّة مقدّسة وشعب اقتناه الله للإشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب». هذا قاله الرسول فينا، لنكون كما الله يريدنا أن نكون!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كهنوت ملوكيّ