...

حرارة في النوس وحرارة في الكوز!

«حتّى وأنا في عمق القبر، سوف أجاهر بالحقّ وأدحض الرياء». هكذا صرخت أوفيمية الشهيدة والتي يعني اسمها «المتكلّمة حسنًا» و«الممدوحة والذائعة الصيت». شهيدة خلقيدونيا، دمُها ما زال يغلي ظلمًا على استشهادها لاتّباعها الطريق الصحيح. هي التي أكّدت أنّه لا قبل الممات ولا بعده سوف تخون ختنها المسيح الملك والإله. ولسان حالها كان، حين قُبض عليها مع مجموعة من المسيحيّين: «إنّ أوامر الأمبراطور نطيعها شرط ألّا تكون مخالفة لأوامر إله السماء. أمّا إذا كانت كذلك فنحن لا نعصاها وحسب بل نقاومها أيضًا». حرارة الإيمان هذه كانت الدافع الحثيث لأن تُسمى أوفيمية «العظيمة في الشهيدات» ولأن تُشيّد فوق ضريحها كنيسة عظمى كانت مهد المجمع المسكونيّ الرابع وفخر خلقيدونيا. فأُضيف إلى عيد استشهادها في ١٦ أيلول من منتصف القرن الثالث، عيد ليتورجيّ آخر في الكنيسة الأرثوذكسية يقع في الحادي عشر من تمّوز، وفيه دُوِّنت أعجوبة حدثت العام ٤٥١م إبّان انعقاد المجمع المذكور. وكان الموضوع الحدث فيه، التشديد على أنّ في المسيح أقنومًا واحدًا مؤلفًا من طبيعتين متميّزتين: اللاهوت والناسوت. هو نفسه تامّ في الألوهة وتامّ في البشريّة. إله حقّ وإنسان حقّ. إنّه مساوٍ للآب في الألوهة ومساوٍ لنا في البشريّة. شبيه بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة، ولأجل خلاصنا وُلد من مريم العذراء. هو الربّ الذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين من دون اختلاط ولا انفصال إلى شخصين بل واحد هو الكلمة يسوع المسيح. في هذا التحديد الخلقيدونيّ أعاد الآباء التشديد على دستور الإيمان لمواجهة بدعة مناصري الطبيعة الواحدة للربّ يسوع المسيح (الطبيعة الإلهيّة). في قرارة نفوسهم وإيمانهم الراسخ بالثالوث المحيي، احتاج آباء المجمع إلى اللجوء والركون إلى بساطة الإيمان المعاش بعيدًا عن تعقيدات اللاهوت اللامنظور، وكيفيّة شرحه للناس وللرأي العامّ بطريقة حيّة بسيطة تدخل القلب والعقل والكيان.

ولذلك استلهموا من القدّيسة أوفيمية ومن قوام سيرتها المشرّفة، أن يعلنوا المعتقد الصحيح للمسكونة قاطبة. فوضعوا في لحدها دستور الإيمان النيقاويّ ووثيقة المعتقد المناوئ، سائلين القدّيسة دحض الزؤان وإنقاذ النفوس المشكّكة الضعيفة من هرطقة مميتة. وبعد وقت، فُتح قبرها ليرى الجميع أنّها نبذت منشور ذوي الطبيعة الواحدة مبعدة إيّاه إلى أسفل قدميها. هكذا سمحت الشهيدة بأن تُنتهك حرمة رمسها ولكن فقط لتعلن الحقّ وتشهد له. كانت نقطة الارتكاز للتمكّن من مجابهة البدع – إلى جانب الآباء المزدانين بالعلم والمعرفة- الاستناد إلى قدّيسين عاشوا الكلمة المحيية، إنّما بخفر، لتفسير كلمة الله. كانوا يلجأون إلى أناس لمسوها عبر قلبهم بطريقة مباشرة ووصلوا إليها حين خرق حبّ الله قلوبهم الحسّاسة، ولو كانوا غير مثقّفين، وذلك بأنّهم اقتنوا شهادة حقيقيّة حيّة وصلوا فيها إلى درجة السماح بسفك دمائهم وأيضًا بانتهاك حرمة قبورهم واستباحتها. هم لا يريدون أن يتزحزحوا عن إيمانهم. هل يا تُرى نصل إلى هذه العجيبة في يومنا هذا؟!

هناك أناس مثقّفون ولكن يهمّهم أن يخترق قلبهم سهم عشق الله بطريقة فاعلة لا نظريّة فقط فيطرحون الخوف الموجود والطاغي. ولذا نحتاج إلى أن نضع يدنا في قبر أوفيمية لنلمس أحقّيّة الرسالة فنرتفع من يأسنا ومن هواجسنا. فهذا الزمن هو عينه ذلك الغابر، فالماء التي نشربها اليوم هي هي شربها سابقًا هراطقة وقدّيسون. لكنّ المهمّ أن نعرف ونعي كيف نستخرج هذه المياه عذبة وصافية. عبارة «قبرهم

بيضوّي» دليل على أنّهم رضعوا الإيمان القويم كما تُرضع الأمّ أطفالها. أمّهاتنا وآباؤنا السالفون هم وليدة هذه الكنيسة فكان وُقودهم زادًا روحيًّا وعشرة نسكيّة صادقة. ومن سلالة هذه التربية القويمة لم يكن من المستطاع الفصل بين الإيمان ومحبّة الآخر لمجرّد الاحترام فحسب. فالإيمان هو قبل كلّ شيء وهذا ما تسلّموه وليس هم من يتكلّمون به بل هم فقط يترجمونه لأنّ الروح القدس هو الذي ينطق به.

في كلّ مناقشة لاهوتيّة عقائديّة، من الضروريّ الركون إلى صوت آباء الكنيسة وإلى شهادة قدّيسيها. دان مجمع مدينة خلقيدونيا بالوفاء لابنتها أوفيمية فركن إليها عندما دعت الحاجة، فكانت خير معين باعترافها بالايمان الحقيقيّ بعقيدة الثالوث، وذلك ليس فقط أثناء حياتها واستشهادها بل حتّى في مماتها حفظت وديعة الإيمان بالإله الإنسان. وهي تنادي قائدتها السيّدة المحامية وتدعوها بالعذراء النقيّة أمّ الإله، مسكتةً بذلك كلّ هرطقة وبدعة. هذه المجاهِرة الجريئة بالإيمان يغلي نوسها في رمسها كما تغلي ماء تمّوز في الكوز، على حدّ قول المثل، دلالة على شدّة حرارة الشمس التمّوزيّة. وهكذا هو الأمر بالنسبة إلى حرارة إيمان قدّيسة خلقيدونيا.

 

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حرارة في النوس وحرارة في الكوز!