...

حاملات الطيب (عن عظة للقدّيس غريغوريوس بالاماس)

قيامة الربّ تجديدٌ للطبيعة البشريّة. هي إقامة آدم الأوّل وإعادة خلقه، آدم – الذي بخطيئته دخل الموت – وبسبب الموت صار يتلمّس خطواته عائدًا إلى الأرض التي منها أُخذ. القيامة هي العودة إلى الحياة الأبديّة. بينما لم ير أحد الإنسان الأوّل عند خلقه، لأنّه لم يكن بشرٌ بعد في ذلك الوقت، كانت المرأة الشخص الأوّل الذي رآه بعد تلقّيه نسمة الحياة الـمُحيية. لأنّها، من بعده، كانت الإنسان الأوّل.

بطريقة مماثلة، لم ير أحد آدم الثاني – الذي هو الربّ، في قيامته من بين الأموات، لأنّ لا أحد من أتباعه كان حاضرًا والحرّاس عند القبر كانوا مرتعدين كالأموات. ومع ذلك، وبعد القيامة، كانت امرأة من رأته أوّلاً قبل الآخرين.

في إنجيل مرقس نقرأ: «وبعدما قام باكرًا في أوّل الأسبوع ظهر أوّلاً لمريم المجدليّة» (مرقس ١٦: ٩). يوثّق الإنجيليّ مرقس قبل ذلك، بالتوازي مع سائر الإنجيليّين، خبر مجيء مريم المجدليّة مع سائر النسوة حاملات الطيب إلى القبر واكتشافهنّ القبر الفارغ ويحاول أن يحدّد الوقت بـ«باكرًا جدًّا» (مرقس ١٦: ٢). لا بدّ تاليًا، من أنّ الربّ قد قام في وقت أبكر من ذلك الصباح الذي رأته فيه. لذلك هو لا يكتفي بقوله «باكرًا» ولكن يزيد «باكرًا جدًّا… إذ طلعت الشمس» (مرقس ١٦: ٢)، أي عند أوّل إشارات الصبح. هذا ما يؤكّده إنجيل يوحنّا عبر قوله إنّ مريم المجدليّة جاءت إلى القبر في أوّل الأسبوع: «باكرًا والظلام باقٍ فنظرت الحجر مرفوعًا» (يوحنّا ٢٠: ١). بحسب القدّيس يوحنّا، هي لم تحضر إلى القبر وحدها، وهي غادرته من دون أن ترى الربّ لأنّها ركضت إلى بطرس ويوحنّا، وبدلاً من أن تُعلن لهما قيامة الربّ، قالت: «أخذوا السيّد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه» (يوحنّا ٢٠: ٢). لذلك، هي لم تكن قد علمت بالقيامة بعد. إذًا، مرقس لا يدّعي أنّ المسيح ظهر لمريم المجدليّة أوّلاً، ولكن أنّه ظهر لها بعد بدء اليوم الفعليّ.

أخبار بُشرى قيامة المسيح تلقّتها، قبل الكلّ، القدّيسة والدة الإله. لحقّ وواجب، أن تراه هي أوّلاً بعد قيامته، وأن تُسرّ بسماع صوته. وعلاوة على ذلك، هي لم تره فقط بعينيها وسمعته بأذنيها، ولكن هي كانت الأولى والوحيدة التي لمست قدميه الناصعتين، حتّى ولو كان الإنجيليّون لا يذكرون هذه الأمور بشكل صريح. هم لم يرغبوا في أن يقدّموا شهادة الأمّ حتّى لا يعطوا غير المؤمنين سببًا للشكّ. تبرير هذا يأتينا من الربّ القائل: «لأنّه ليس خفيٌ لا يُظهر ولا مكتومٌ لا يُعلم ويُعلن» (لوقا ٨: ١٧). حاملات الطيب، تلك النسوة اللواتي تابعن مع والدة الإله، وبقين معها خلال ساعات الآلام الخلاصيّة، وواكبن واجب المحبّة لتحنيط الربّ بالطيب. أمّا يوسف مع نيقوذيموس، وبعد أن استلما جسد الربّ من بيلاطس، أنزلاه عن الصليب، وحنّطاه بالطيب، وكفّناه بالكتّان، ووضعاه في قبر جديد منحوتًا في صخرة، ودحرجا حجرًا كبيرًا على باب القبر. حاملات الطيب كنَّ يراقبن عن قُرب، ويضيف مرقس الإنجيليّ: «وكانت مريم المجدليّة ومريم أمّ يوسي تنظران أين وضع» (مرقس ١٥: ٤٧). بمريم أمّ يعقوب ويوسي، هو يعني من دون شكّ مريم والدة الإله، يعقوب ويوسي (إخوة الربّ، هما من أولاد

يوسف خطيبها من زواج سابق). يضيف الإنجيليّ لوقا إليهما نسوة أخريات: «وتبعته نساءٌ كنَّ قد أتين معه من الجليل ونظرن القبر وكيف وُضع جسده… وكانت مريم المجدليّة ويونَّا ومريم أمّ يعقوب والباقيات معهنَّ» (لوقا ٢٣: ٥٥؛ ٢٤: ١٠).

هكذا وبعد أن استرحن في السبت بحسب الناموس، «في أوّل الأسبوع (أي يوم الأحد) أوّل الفجر أتين القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهنَّ أناسٌ» (لوقا ٢٤: ١). كلّ الإنجيليّين يرمزون إلى يوم الأحد عند استعمالهم تعابير مثل «أوّل الأسبوع»، و«عند انقضاء السبت»، و«باكرًا»، و«الفجر»… كلّها تعني أولى إشارات الفجر وبدء تلوّن الأفق لجهة الشرق.

في الظاهر، يبدو كأنّ الإنجيليّين يختلفون حول عدد النسوة حاملات الطيب ومواعيد زياراتهنّ القبر. هذا يعود إلى كثرة عددهنّ، ولحقيقة أنهنّ لم يزرن القبر مرّة واحدة فقط بل مرّتين وثلاث مرّات، ولأنهنّ لم يأتين في المجموعة ذاتها في كلّ مرّة. كلّ الزيارات حصلت عند الفجر ولكن ليس في الساعة ذاتها تحديدًا. مريم المجدليّة أتت أيضًا وحدها وبقيت مدّة أطول. كلّ من الإنجيليّين يورد إذًا زيارة بعض من النساء ويغفل عن أخريات. بناء على ذلك، عبر مطالعة كلّ الأناجيل، نستنتج أنّ والدة الإله مريم كانت أولى الوافدات إلى قبر ابنها وإلهها برفقة مريم المجدليّة. مصدرنا في هذا إنجيل متّى: «وبعد السبت عند فجر أوّل الأسبوع جاءت مريم المجدليّة ومريم الأخرى لتنظرا القبر» (٢٨: ١). مريم الأخرى، بالطبع، هي والدة الإله. «وإذا زلزلةٌ عظيمة حدثت. لأنّ ملاك الربّ نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن باب القبر وجلس عليه. وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج. فمن خوفه ارتعد الحرّاس وصاروا كأموات» (٢٨: ٢-٥). النسوة الأخريات أتين بعد الزلزلة وفرار الحراس ووجدن الحجر مدحرجًا والقبر فارغًا. الأمّ العذراء كانت عند القبر عند حدوث الزلزلة ودحرجة الحجر وعند فتح القبر، وعندما كان الحرّاس لا يزالون هناك مع أنّهم صاروا كالأموات. لذلك فكّر الحرّاس بالفرار مباشرة بعد الزلزلة، أمّا والدة الإله فقد ابتهجت من دون خوف ممّا عاينته. أنا أؤمن بأنّ القبر الحامل الحياة انفتح أوّلاً من أجلها. ملاك البشارة جبرائيل نفسه، رآها وانقضّ على القبر نازلاً. هو الذي بشّرها منذ البدء: «لا تخافي يا مريم لأنّك وجدت نعمة لدى الربّ»، هو اليوم يوجّه الكلام عينه للدائمة البتوليّة: «وقال الملاك للمرأتين لا تخافا أنتما. فإنّي أعلم أنّكما تطلبان يسوع المصلوب. ليس هو ههنا لأنّه قد قام كما قال» (متّى ٢٨: ٥-٦). لا القيود ولا الأختام ولا القضبان ولا القبر قادرة على أن تضبطه، لا ولا حتّى الجحيم والموت، لأنّه ربّ الجند السماويّة وربّ العالم كلّه وحده. «أنظرا الموضع الذي كان الربّ مضّجعًا فيه. واذهبا سريعًا قولا لتلاميذه إنّه قد قام من الأموات. فخرجتا من القبر بخوف وفرح عظيم» (٦-٨).

وعند هذه النقطة، أرى أنّ مريم المجدليّة والنساء الأخريات اللواتي وصلن إلى هذه المرحلة كنَّ لا يزلن خائفات. لأنهنّ لم يفهمن معنى كلمات الملاك القويّة، ولم يمكنهنّ أن يحوين إلى النهاية قوّة الضوء حتّى يرين ويفهمن دقّة الحدث. ولكن أعتقد أنّ والدة الإله جعلت من هذا الفرح العظيم فرحها، لأنّها فهمت كلمات الملاك. وكيف لا تفهم العذراء الحكمة الإلهيّة؛ وهي قد لاحظت معنى هذه الأحداث الحاصلة أمامها؟

لكنّ مريم المجدليّة، في ردّها على بُشرى القيامة، تصرّفت وكأنّها لم تسمع الملاك على الإطلاق – وهو لم يكن في الواقع يتحدّث مباشرة معها. لذلك، هي لم تشهد إلاَّ على القبر الفارغ ولم تقل شيئًا عن الأكفان، ولكنّها ركضت مباشرة إلى بطرس وإلى التلاميذ الآخرين، كما يذكر القدّيس يوحنّا. أمّا والدة الإله فقد عادت إلى القبر مرّة أخرى حيث التقت بالنساء الأخريات، وكما يقول القدّيس متّى، لاقاهم يسوع وقال لهنّ أن يفرحن. لذلك، حتّى قبل مريم المجدليّة، فقد رأته والدة الإله، هو الذي من أجل خلاصنا تألّم ودفن وقام بالجسد من جديد.

وكما أنّ والدة الإله وحدها فهمت كلمات الملاك، ورغم أنّها سمعت بُشرى القيامة مع مريم المجدليّة، فهي كانت الأولى بين سائر النسوة بالتعرّف إلى الناهض من بين الأموات لدى لقائها بابنها وإلهها؛ لذا هي سقطت، ولمست قدميه وصارت رسولة لرسُله. بينما مريم المجدليّة كانت لم تدر بعد بالقيامة، فلو كانت شاهدته أو سمعت صوته أو لمسته بيديها لما كانت أعلنت للتلاميذ: «أخذوا السيّد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه» (يوحنّا ٢٠: ٢).

ولكن بعد أن ركض بطرس ويوحنّا إلى القبر ورأيا الأكفان وعادا، يقول القدّيس يوحنّا إنّ مريم المجدليّة كانت تقف بقرب القبر تبكي. لذا، هي لم تشاهد الربّ حتّى الآن، ولم تكن قد أُبلغت خبر القيامة بعد. وعندما سألها الملاكان في القبر: «يا امرأة، لماذا تبكين؟ قالت لهما: إنّهم أخذوا سيّدي، ولست أعلم أين وضعوه»؛ وهي أجابت يسوع الذي سألها السؤال ذاته ولم تكن بعد قد عرفته: «يا سيّد، إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته، وأنا آخذه»! ولم تفهم حتّى ناداها باسمها وأظهر لها أنّه هو، وعندما سقطت هي أيضًا لتقبّل قدميه قال لها: «لا تلمسيني» (يوحنّا ٢٠: ١٣-١٧). من هذا نفهم أنَّه عندما ظهر سابقًا لأمّه وللنسوة المرافقات، سمح لأمّه فقط بأن تلمس قدميه، حتّى لو كان متّى يجعل من هذا تنازلاً مشتركًا لجميع النسوة. كانت الدائمة البتوليّة مريم هي التي جاءت إلى القبر أوّلاً وكانت أوّل من تلقّى بُشرى القيامة. ثمّ تجمّع العديد من النسوة ورأين أيضًا الحجر مُدحرجًا وسمعن الملائكة، ولكنهنّ تفرقن عند عودتهنّ. وهكذا، لدينا معلومات دقيقة عن حاملات الطيب وهذا الاتّفاق العامّ بين الإنجيليّين الأربعة كتأكيد أعلى. ولكن حتّى مع كلّ ما سمعوا في ذلك اليوم عن القيامة من حاملات الطيب، من بطرس، وحتّى من لوقا وكليوبّا، أنّ الربّ حيٌ وأنّهم قد رأوه، أظهر التلاميذ عدم التصديق. لهذا السبب هو بكّتهم على قلّة إيمانهم عندما ظهر لهم وهم مجتمعون. ولكن عندما أظهر نفسه لهم مرّات عديدة وعبر شهود كثيرين أنّه حيٌ، هم لا فقط آمنوا جميعًا، ولكنّهم بشّروا العالم كلّه. خرج صوتهم إلى كلّ الأرض، وانتشرت كلماتهم إلى أقاصي المعمورة. وعمل الربّ معهم، وأكّد كلمته بالآيات التي رافقتهم.

لذلك، دعونا جميعا نُظهر حياة مماثلة للإيمان، لدخول غرفة الختن حيث الفرح والحياة الأبديّة مع القدّيسين، الذي هو مكان استراحة كلّ الذين ينتظرون الفرح الحقيقيّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حاملات الطيب

(عن عظة للقدّيس غريغوريوس بالاماس)