...

«قوّتي في الضعف تكمل»

الصوم هو فرصة ليتأمّل الإنسان المسيحيّ في ضعفه ويجدّد مسيرته التي بدأت مع الربّ لحظة المعموديّة. ومن نعمة المعموديّة هذه يستمدّ المؤمن قوّة وشجاعة في جهاده الروحيّ. فالميول التي خلقها الله في الإنسان لأجل استمرار الحياة، كشهيّة الطعام، واحترام الذات، والحبّ على أنواعه، والحزن والفرح، كلّها فقدت براءتها بعد سقوط الإنسان وتشوّهت إلى ما يؤذيه. أمست أهواءً منحرفة عن غايتها الأساسيّة: الشراهة، والأنانيّة، والكبرياء، والزنى، واليأس، والخلاعة، وما شابه. هدف المؤمن في جهاده هو استعادة النعمة الإلهيّة والعودة إلى حياة الشركة مع الله كما كان في الفردوس. وأكثر من ذلك، المؤمن المسيحيّ مدعوّ إلى تحقيق ملء قامة المسيح في ذاته ليصير ابن الله بالتبنّي، على غرار المسيح الإله والإنسان، وهذا يسمّى التألّه.

ولكنّ هذه المسيرة من ظلام الانحراف إلى نور الحقّ تتطلّب صراعًا صعبًا: «هذا الجنس لا يخرج إلّا بالصلاة والصوم» (مرقس ٩: ٢٩).

في هذا الإطار، نَصب لنا آباء الكنيسة، في الأحد الرابع من الصوم، مثال راهب عظيم أمضى حياته في هذا الجهاد. هو القدّيس يوحنّا السلّميّ، الذي وضع خبرته في كتاب سلّم الفضائل، حيث يقابل صراع المؤمن مع ضعفاته بصراع يعقوب أبي الآباء مع ملاك الربّ طول الليل ولم يُطلقهُ.

رأت الكنيسة في هذا الكتاب دليلًا روحيًّا للمؤمن الذي يجاهد في ليل الأهواء ليصعد سلّم الفضائل ويبلغ نور الفصح المجيد. فالجهاد مع الأهواء لا ينتهي، ولكنّ معرفة الذات ووعي حاجات الإنسان وتركيبته الجسديّة والنفسيّة والروحيّة هي عوامل مساعدة. وهذا ما أشار إليه بعض الآباء، كالقدّيس ذوروثاوس من غزّة، في كتاب «التعاليم الروحيّة». فهو يعطي مثالًا عن راهب كان عنده هوى السرقة لأسباب معيّنة تطلّب علاجًا نفسيًّا. فليست كلّ تجارب الإنسان روحيّة محضة، وقد يكون بعضها نفسيًّا بسبب ما يحدث في طفولته. قال أحد الرهبان للأب الروحيّ: «الأبالسة تحاربني». فأجابه الأب الشيخ: «الأبالسة تحارب أمثال أنطونيوس ومكاريوس وموسى الحبشيّ. أمّا نحن فأبالستنا هي أهواؤنا». بالمقابل، ليست كلّ التجارب نفسيّة أو جسديّة، بل منها ما هو روحيّ أيضًا. هذا ما اختبره القدّيس سلوان الآثوسيّ. كان يصوم ويصلّي طالبًا أن يتغلّب على ضعفه وتجارب الأهواء. ولمّا تعب، صرخ: «أنت قاسٍ يا ربّ!» حينئذٍ، ظهر له المسيح وقال بعذوبة: «ثبّت ذهنك في الجحيم ولا تيأس».

قد يرى المؤمن المعاصر عوائق كثيرة تشلّ فرحه وحركته نحو المسيح. ولعلّ تلك العوائق النفسيّة والمادّيّة هي أشبه بالأبالسة التي تظهر في أيقونة القدّيس يوحنّا السلّميّ. هذه العوائق تحاول أن تثبط عزيمة محبّتنا للربّ وأن تلهينا عن ارتقاء سلّم الفضائل نحوه. ولكنّ حضور الربّ في أعلى السلّم هو النور الذي يساعدنا كي نرى حقيقتنا. كلامه ينيرنا كي نرى ضعفنا. حينئذ، نصرخ «أؤمن يا ربّ فأعِن عدم إيماني»، كما نسمع في الإنجيل (مرقس ٩: ٢٤). من هنا، وجدَت الكنيسة في النور أفضل تعبير عن النعمة الإلهيّة التي تنقل قوّة حياة المسيح إلى وهَن العالم. فالمسيح هو «النور الحقيقيّ الذي ينير كلّ

إنسان» (يوحنّا ١: ٩)، كما يرد في إنجيل الفصح. بلوغ نور المسيح هو هدفٌ تضعه الكنيسة إزاء المؤمن ليثبّت نظره فيه ويتذكّره كلّما تعب في جهاد الصوم.

في النهاية، ليس الإنسان نفسه الذي يحارب، إنّما يسجد بتواضع قدّام الربّ ويعترف بضعفه ويطلب المعونة. حينئذٍ يمدّ المسيح يده ويهديه ميناء السلام بنور محبّته العجيب.

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوّتي في الضعف تكمل