...

كلمة الراعي تقديسنا بين صراخ والد وصراخ الله

يضعنا إنجيل الأحد الرابع من الصوم على حافّة شديدة الخطورة، حيث مصير حياة ابن على المحكّ. فمن جهة، والده يصرخ متألّـمًا لأوجاعه ويشكو عجز التلاميذ عن شفائه، ومن جهة أخرى، يسوع نفسه يصرخ متألّـمًا من «هذا الجيل غير المؤمن» (مرقس ٩: ١٨ و١٩). بين هذَين الموقفَين، نقف نحن في الوسط، لكوننا لا نعرف هل صراخنا هو بداعي عجز التلاميذ عن مساعدتنا، أو عجزنا الناتج من خضوعنا للأرواح النجسة، أو تضجّر المسيح منّا، نحن الجيل غير المؤمن حقًّا.

كيفما كانت عليه حالتنا، يبدو أنّنا اليوم عاجزون عن أن نبصر طريق الخلاص. فالعجز حالة قائمة، ولا نجد بصيص نور سوى أن نصرخ بدورنا نحو السيّد، كما فعل والد الفتى: «أؤمن يا سيّد، فأعِنْ عدم إيماني» (مرقس ٩: ٢٤). نعم، الإشكاليّة الكبرى في حياتنا، والمتمثّلة بكوننا من جماعة «الجيل غير المؤمن»، لا يسعنا حلّها إلّا إذا أنصتنا جيّدًا إلى صراخ يسوع نحونا الذي يوقظنا من سباتنا. أَلَم يقلْ يسوع للوالد الموجوع: «إن كنتَ تستطيع أن تؤمن فكلّ شيء مستطاع للمؤمن» (مرقس ٩: ٢٣)؟

يرافق صرخةَ يسوع تعليمٌ حول كيفيّة النفاذ إلى لبّ المشكلة الذي يكمن في تربية النفس وتنشئتها على حسن العبادة، أي العبادة التي نعاين فيها الإله الحقيقيّ، وأن نتحلّى بمفاعيل هذه العبادة على حياتنا. فهذه التنشئة تحصل بالصلاة والصوم، صلاةٍ تقدّس زمننا، وصومٍ يقدّس محيطنا ودواخلنا. وإلّا فما معنى أن يؤكّد يسوع: أنّ «هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلّا بالصلاة والصوم» (مرقس ٩: ٢٩)، وذلك في معرض شرحه للتلاميذ عن سبب عجزهم شفاء الولد الذي «به روح أخرس»؟

لا شكّ في أنّ الربّ قصد أن نقدّس الأبعاد التي نعيش فيها، أي بعدَي الزمان والمكان، بحيث يصبحان المكان الذي نلتقيه فيهما على مدار الساعة، ونلتقي فيهما أيضًا إخوتنا وأترابنا أيضًا. ما كان التلاميذ

على هذه اللياقة الروحيّة المطلوبة لإتمام مشيئة الربّ. فالعلّة الكامنة في نفوسنا تحتاج منّا إلى كلّ جهد نزيه وصادق ومتفانٍ من أجل أن نربح أنفسنا للمسيح فنربح سوانا إليه أيضًا. فخروج الروح الشرّير من هذا الابن المصروع يحتاج منّا إلى كلمة نقصد بها كلّ ما تحمله من قوّة مرجعيّة (أن تكون باسم الله ولمجده) وفاعليّة إلهيّة (أن تحصل بنعمة الله): «أيّها الروح الأخرس الأصمّ، أنا آمرك: أُخرجْ منه ولا تدخلْه أيضًا» (مرقس ٩: ٢٥).

على ضوء تقديس الزمن والمحيط بالصلاة والصوم، أي على ضوء تقديس ذواتنا، تصير نفوسنا ذبيحةً مرضيّةً لله، يُسَرّ الله بها فيكشف لنا عن إرادته ويعيننا في تحقيقها في واقعنا. فتصريح يسوع لتلاميذه: «إنّ ابن الإنسان يسلَّم إلى أيدي الناس فيقتلونه وبعد أن يُقتَل يقوم في اليوم الثالث» (مرقس ٩: ٣١)، يدخلنا مع تلاميذه في تجربة آلامه لكي يكون لنا هو مدرِّبًا ومثالًا نجتاز، على شاكلته وعلى أساسه، آلام الدهر الحاضر، «ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهينًا بالخزي، فجلس في يمين عرش الله» (عبرانيّين ١٢: ٢-٣). فيسوع هو مثال نحتذيه وراعٍ أمين يقودنا في معارج حياتنا. هلّا أكملنا إذًا زمن الصلاة والصوم بهذا الإلهام الكبير، الذي به يفتدينا الربّ من سقطاتنا وآلامنا وضعفاتنا، ويخطفنا إلى مصافّ التلاميذ الذين امتُحنوا وجازوا إلى ماء الراحة فتقدّسوا؟

+ سلوان مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: عبرانيّين ٦: ١٣-٢٠

يا إخوة، إنّ الله لمّا وعد إبراهيم، اذ لم يمكن أن يُقسم بما هو أعظم منه، أَقسم بنفسه قائلًا: لأُباركنّك بركة وأُكثّرنّك تكثيرًا. وذاك إذ تأنّى نال الموعد. وإنّما الناس يُقسِمون بما هو أعظم منهم، وتنقضي كلّ مشاجرة بينهم بالقَسَم للتثبيت. فلذلك لمّا شاء الله أن يزيد وَرَثة الموعد بيانًا، لعدم تحوّل عزمه، توسّط بالقَسَم، حتّى نحصل بأمرين لا يتحوّلان ولا يمكن أن يُخلف الله فيهما، على تعزية قويّة نحن الذين التجأنا إلى التمسّك بالرجاء الموضوع أمامنا، الذي هو لنا كمرساة للنفـس أمينة راسخة تدخل إلى داخل الحجاب حيث دخل يسوع كسابقٍ لنا، وقد صار على رتبة ملكيصادق رئيـسَ كهنةٍ إلى الأبد.

 

الإنجيل: مرقس ٩: ١٧-٣١

في ذلك الزمان دنا إلى يسوع إنسان وسجد له قائلًا: يا معلّم، قد أتيتُك بابني به روحٌ أبكم، وحيثما أخذه يصرعه فيُزبد ويصرف بأسنانه وييبس. وقد سألتُ تلاميذك أن يُخرجوه فلم يقدروا. فأجابه قائلًا: أيّها الجيل غيرُ المؤمن، إلى متى أكون عندكم؟ حتّى متى أَحتملكم؟ هلمّ به إليّ. فأَتوه به. فلمّا رآه للوقت صرعه الروح فسقط على الأرض يتمرّغ ويُزبد. فسأل أباه: منذ كم من الزمان أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه، وكثيرًا ما ألقاه في النار وفي المياه ليُهلكه. ولكن إن استطعتَ شيئًا فتحنّنْ علينا وأَغثنا. فقال له يسوع: إن استطعتَ أن تؤمن فكلّ شيء مستطاع للمؤمن. فصاح أبو الصبيّ من ساعته بدموع وقال: إنّي أُؤمن يا سيّد، فأَغثْ عدم إيماني. فلمّا رأى يسوع أنّ الجمع يتبادرون إليه، انتهر الروح النجس قائلًا له: أيّها الروح الأبكم الأصمّ أنا آمُرك بأنِ اخرج منه ولا تعُدْ تدخل فيه. فصرخ وخبطه كثيرًا وخرج منه، فصار كالميت حتّى قال كثيرون إنّه قد مات. فأخذ يسوع بيده وأَنهضه فقام. ولمّا دخل بيتًا سأله تلاميذه على انفراد: لـماذا لم نستطع نحن أن نُخرَجه؟ فقال لهم: إنّ هذا الجنس لا يمكن أن يخرج إلّا بالصلاة والصوم. ولمّا خرجوا من هناك اجتازوا في الجليل ولم يُرِدْ أن يدري أحد، فإنّه كان يُعلّم تلاميذه ويقول لهم: إنّ ابن البشر يُسلَم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد أن يُقتل يقوم في اليوم الثالث.

 

 

 

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

تقديسنا بين صراخ والد وصراخ الله