...

في محبّة الأعداء

قد تكون الحال، في كثير من الأحيان، أنّنا سمعنا مرارًا وتكرارًا أبسط كلمات الكتاب المقدّس لدرجة أنّنا ما عدنا حقًّا نُصغي إليها! لأنّ عمليّة التعرّف السطحيّ بالكتاب، عبر القراءة الضحلة والممتدّة على فترات مطوّلة، قد تؤدّي إلى نتائج عكسيّة منها انحراف معرفتنا بالكلمة الإلهيّة أو تبلّدها- «السيف ذو الحدّين» (عبرانيّين ٤: ١٢). ففي حالات مماثلة، قد نفترض أنَّ المغزى الحقيقيّ للإرادة الإلهيّة قد تحقّق باختراق كلمة الله لقلوبنا، بينما في الحقيقة نكون قد أمضينا معظم حياتنا في تفادي ذلك عبر التهرّب ببراعة من نصال الحقيقة.

فلننظر، في هذا السياق، إلى الوصيّة الإلهيّة البسيطة بمحبّة الأعداء. هذا الأمر لا يمكن أن يكون أكثر وضوحًا: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ… وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟… وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟» (لوقا ٦: ٢٧، ٣٢، ٣٣).

قد يفترض الكثيرون منّا، أنّنا قد لبّينا هذه الوصيّة الإلهيّة، في حين أنّه من المُرجّح أنّنا قد مِلنا جانبًا حتّى تمرّ عنّا! فمن المؤكّد أنّ التحيّز في عالم الُمعَاصرة اليوم، يجعل الأمر بمحبّة الأعداء أمرًا يعسر فهمه. ففي وسائل التعبير الحديثة، تُشير كلمة «حُبّ» في غالب الأحيان إلى المشاعر والعواطف؛ أي أنّ هناك حُكمًا اجتماعيًّا مُسبقًا، يدفعنا بشكل أساس إلى تفسير هذا الأمر الإلهيّ بمعنى عاطفيّ محض. فنتخيّل أنفسنا متّجهين إلى التفكير بـ«مشاعر» الخير والطيبة تجاه أعدائنا؛ لذا، وطالما نحن مُباركون بهذه «البراعة» الداخليّة لدينا، عبر بثّ هذه المشاعر على شاشة نفسنا الداخليّة، نتوهّم بأنّنا حقًّا نُحبّ أعداءنا.

لكن، وعند التدقيق عن كثب، فإنّ النصّ المقدّس يقول خلاف ذلك تمامًا. إنّه لا يُخبرنا كيف نشعر تجاه أعدائنا. في الواقع، هو لا يُظهر أدنى اهتمام في كيفيّة شعورنا تجاههم. الحبّ الذي يأمر به الكتاب، في المقابل، هو حبّ إيجابيّ بالكامل، وفعّال بالمعنى العمليّ للكلمة. نعمة الروح القدس تجعل هذا الأمر ممكنًا، كما يؤكّد القدّيس سلوان الآثوسيّ: «النفس التي لم تعرف الروح القدس لا تفهم كيف يحبّ الإنسان أعداءه، ولا تقبل بذلك».

يتّضح معنى فعل «أحبّ»، عبر سياق النصّ الكتابيّ أعلاه. ثلاث مرّات ترِد في الآيات المذكورة أعلاه أوامر عن «الحبّ» و«فعل الخير» وقد وُضعت في بناءٍ لغويٍّ متوازٍ حيث يتمّ نقل فكرة واحدة في شكلين. وهكذا، فإنّ الأوامر عن «الحبّ» وفِعل الخير «الإحسان» تعني بالضبط الشيء ذاته، والثاني هو ببساطة شرح للأوّل. وهذا يعني أنّ المُحبّ، عبر تعريف الكتاب المقدّس، هو فاعل الخير (وهذا أكثر وضوحًا في الأصل اليونانيّ حيث التوازي بين «agapate» و«agathopoiete»).

الآن قد يحدث بالتأكيد، أنّه عبر فعل الخير لأعدائنا، أنّ عواطفنا قد تتغيّر. وقد يأتي الوقت المناسب، لنشعر نحن بشكل مختلف تجاه هؤلاء الأعداء. وهذا أمر حسن، ولكن ليس هذا القصد من الوصيّة الإلهيّة، فهي تتوجّه إلى نشاطنا المطلوب – لا إلى أحاسيسنا.

الآن في ما يتعلّق بهذه المسألة، نحن مُثقلون بقضيّة الميل الـمُعاصر، الذي يأخذ قضيّة «المشاعر» كاختبار مُبَرَّر وصحيح لما هو حقيقيّ. وهكذا، فإنّنا نحكِم على هذه الأمور بكونها أكثر حقيقيّة عبر إحساسنا بأنّنا «نشعُر بها بعمق»، كما لو أنّ العفويّة تخلق الأصالة. يتمّ الضغط على أجهزتنا العصبيّة المسكينة لخدمة «مؤشّر» الواقع هذا!

تاليًا، عندما يفرض الواجب علينا -حتّى الواجب الإلهيّ- أن نقوم بأمور لا «نشعر» بها بالضرورة، تدفع بنا الثقافة المعاصرة (أو السائدة) إلى الصراع الداخليّ مع «زيف» أنفسنا وعدم صدقها. وهذا بالتأكيد بلا مغزى. وأقرّ بأنّ هذا الافتراض الزائف تمامًا للثقافة المعاصرة، هو عائق كبير أمام سماع كلمة الله والقيام بها (يعقوب ١: ٢٢-٢٣).

فِعْل الخير لأعدائنا من جهة ومسامحتهم من جهة أخرى، بطبيعة الحال، هو ما أمر به الربّ مرارًا وتكرارًا. ومرّة أخرى، من المهمّ أن نُلاحظ بدقّة طبيعة التفويض. نحن لا نتمتّع بترف بأن «نشعر بالاستغفار». يبدو أنّ الله لا يهتمّ البتّة بطبيعة شعورنا تجاه موضوع أعدائنا. في هذه الحالة أيضًا، قد يحدث أنَّ العادة المزروعة فينا لمسامحة أعدائنا قد تؤدّي في الواقع، في آخر المطاف، إلى المشاعر الشخصيّة عن الغفران. لا مانع، ولكنّ الفِعل لا الشعور، هو الأمر الإلهيّ. (متّى ٢١: ٢٨-٣٢ المهمّ هو الابن الذي صنع مشيئة أبيه لا مجرّد من شعر بضرورة تلبيتها).

قد يكون الشهيد إستيفانوس قد أحسّ بالمرارة، نوعًا ما، تجاه هؤلاء الأعداء «قُسَاةَ الرِّقَابِ، وَغَيْرَ الْمَخْتُونِينَ بِالْقُلُوبِ وَالآذَانِ»، الذين كانوا يأخذون حياته بعنف. الأمر المهمّ حقًّا هو أنَّ إستيفانوس، في النهاية، قد غفر لهم حقًّا (أعمال

في محبّة الأعداء