...

إيضاح الإنجيل

يعتقد بعض المؤمنين أنّ قول الربّ يسوع «بعْ كلّ شيء لك وأعطه للمساكين… وتعال اتبعني» يمثّل قاعدة عامّة مُلزمة للجميع، وكأنّ الفقر والبؤس ضروريّان لإرضاء الله. ويزيد من حدّة هذا الاعتقاد تعليق الربّ يسوع على ردّ فعل الغنيّ بقوله: «إنّه يعسر على الغنيّ دخول ملكوت السموات… إنّ مرور الجمل من ثقب الإبرة لأسهل من دخول غنيٌّ ملكوت السموات» ما يعني أنّ خلاص الأغنياء على العموم هو أمر مستحيل. هذا الاعتقاد يوّلد صراعًا داخليًّا مريرًا في نفس المؤمن الذي يودّ أن يرضي الله من جهة، وألّا يحيّا في العوز من جهة أخرى.

الغني المذكور هو، على الأرجح، من جماعة الفرّيسيّين الذين يؤمنون بالقيامة والحياة بعد الموت، وقد أقرّ بأنّه، منذ حداثته، يعرف الوصايا ويحفظها، أي يسلك بموجبها بالقول والعمل. عندها دعاه يسوع ليبيع كلّ مقتنياته ويوزّعها على الفقراء ويتبعه، أي يدعوه لينضمّ إلى جماعته ويكون له تلميذًا ورسولاً. إنّ ترك كلّ شيء أمر بديهيّ يسبق اتّباع يسوع كما عمل كلّ من بطرس وابني زبدى ولاوي. هذا يوافق ما يذكره الإنجيليّ لوقا على لسان الربّ: «كلّ واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر على أن يكون لي تلميذًا» (لوقا ١٤: ٢٧). الأرجح أنّ هذا الغني ضليعٌ بالأسفار المقدّسة ويتحلّى بإيمان صادقٍ لكونه دعا يسوع «معلّمًا صالحًا»، فهو ولا شكّ يتمتّع بكلّ ما يلزم ليكون تلميذًا ليسوع ورسولاً قادرًا على أن يحمل البشارة ويثبّت صدقها ببراهين دامغة من الوحي الإلهيّ والنبوءات. لكنّ فكر هذا الرجل انحصر فقط بالفقرة الأولى من مطلب يسوع، وتوقّف عند تبديد غناه، لذلك مضى حزينًا ولم يدرك أبعاد مطلب الربّ.

أوجدت هذه الحادثة المناسبة ليسوع ليندّد مجدّدًا بأخطار الغنى على خلاص الإنسان، لذلك توجّه إلى الحاضرين وقال: «إنّه يعسر أن يدخل غنيّ إلى ملكوت السموات» (متّى ١٩: ٢٣). فهذا الكلام يشكّل وجهًا آخر لتصريح أعلنه الربّ يسوع أمام الفرّيسيّين مفاده أن «لا يقدر خادم أن يخدم سيّدين، لأنّه أمّا أن يبغض الواحد ويحبّ الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (لوقا ١٦: ١٣). إذًا، «من يستطيع أن يخلص؟» سؤال وجيه. بالطبع، ليس كلّ إنسان غنيًّا، لكن يندر أن يوجد إنسانٌ لا يطمح إلى الغنى. بقرارة نفس كلّ واحد منّا رغبة في الغنى، قد تكون مُعلنة أو محجوبة ببعض من التُقى الزائف. لذلك يؤلمنا كلام يسوع كما آلم سامعيه في ذلك الحين.

كيف يكون العسير عند الناس مُستطاعًا من قبل الله؟ نجد وجهًا للجواب لدى الرسول بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس حيث قال: «إنّ محبّة المال أصل لكلّ الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة. وأمّا أنت يا إنسان الله (أي تيموثاوس) فاهرب من هذا، واتّبع البرّ والتقوى والإيمان والمحبّة والصبر والوداعة. جاهد جهاد الإيمان الحسن وامسك بالحياة الأبديّة التي إليها دُعيت أيضًا واعترفت الاعتراف الحسن أمام شهود كثيرين… (١تيموثاوس ٦: ١٠-١٢) أوص الأغنياء في الدهر الحاضر، ألّا يستكبروا ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينيّة الغنى بل على الله الحيّ، الذي يمنحنا كلّ شيء بغنى للتمتّع. وأن يصنعوا صلاحًا وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة وأن يكونوا أسخياء في العطاء كرماء في التوزيع مدّخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل لكي يمسكوا بالحياة الأبديّة» (١تيموثاوس ٦: ١٧-١٩). تيموثاوس الضليع في الأسفار المقدّسة منذ نعومة أظفاره،

والموكول بالبشارة والتعليم والرعاية، والمثال في البرّ والتقوى ينال فرصة الإمساك بالحياة الأبديّة بهربه من الدنيويّات والتزام المهمّة البشاريّة الموكولة إليه. أمّا الأغنياء المتنعّمين بثروات الدنيا فينالون فرصة الإمساك بالحياة الأبديّة، نظير تيموثاوس، بالاتّكال على الله وبالأعمال الصالحة والسخاء والكرم. إنّ غنيّ إنجيل اليوم بحفظه الشريعة منذ حداثته يشبه إلى حدّ كبير تيموثاوس، لذلك الأجدر به أن يتبع يسوع ويستغلّ معرفته هذه للبشارة فيمسك بالحياة الأبديّة التي يبتغيها.

نستخلص من هذا التحليل أنّ تبديد كلّ شيء واتّباع يسوع، ليست بالضرورة قاعدة عامّة ملزمة للجميع. إنّها ملزمة فقط لغنيّ إنجيل اليوم ومن شابهه، أي لمن يصلح لأن يكون في خدمة الله، لمن اقتنى غنى المعرفة الإلهيّة، لمن ينطبق عليه لقب رجل الله. أمّا سائر الناس الّذين يفتقرون إلى المعرفة الإلهيّة، وتاليًا غير المؤهّلين للعمل في حقل الرّبّ، فيفيدهم أن يعطوا بسخاء ويسلكوا برضى الله، لينالوا نعمة الخلاص ماسكين بالحياة الأبديّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إيضاح الإنجيل