...

إليكَ بسطتُ يديَّ

في التقليد الشرقيّ، يُتلى المزمور ١٤٢ (١٤٣ عبريّ) في الصباح ضمن الجزء الختاميّ للمزامير الستّة في مطلع صلاة السَحَر اليوميّة. من نافل القول إنّ الكنيسة اعتقدت أنّه مزمور جيّد ليستهلّ المؤمن نهاره به. لذلك نصلّي: «اجعلني في الغداة مُستمعًا رحمتك فإنّي عليكَ توكّلتُ».

وعندما نبدأ يومنا مع هذه الصلاة، نكون قلقين بخاصّة حول التسليم لقيادة روح الله القدّوس: «رُوحُكَ الصالحُ يَهديني في أرضٍ مُستقيمةٍ». نُصلّي واثقين. فربوبيّة الروح القدس هذه أمرٌ أساس لهويّتنا، لأنّ: «كلّ الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله» (رومية ٨: ١٤). لذلك نضرع مصلّين: «عرّفني يا ربُّ الطريق التي أسلُكُ فيها لأنّي إليكَ رفعتُ نَفسي».

ففي الكتاب المقدّس، السالكين بهُدى الروح هم في تناقض بخاصّة مع أولئك السائرين «بحسب الجسد». تناقض نجد تفصيله في الرسالة إلى غلاطية: «وإنّما أقول: اسلكوا بالروح فلا تكمّلوا شهوة الجسد. لأنّ الجسد يشتهي ضدّ الروح والروح ضدّ الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر، حتّى تفعلوا ما لا تريدون. ولكن إذا أنقدتم بالروح فلستم تحت الناموس. وأعمال الجسد ظاهرة، التي هي: زنى، عهارة، نجاسة، دعارة، عبادة الأوثان، سحر، عداوة، خصام، غيرة، سخط، تحزّب، شقاق، بدعة، حسد، قتل، سكر، بَطَر. وأمثال هذه التي أسبق فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضًا: إنّ الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله. وأمّا ثمر الروح فهو: محبّة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفّف. ضدّ أمثال هذه ليس ناموس. ولكنّ الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات. إن كنّا نعيش بالروح، فلنسلك أيضًا بحسب الروح» (غلاطية ٥: ١٦-٢٥).

من الملاحظ هنا بصفة خاصّة، أنّ الرسول بولس يعالج ربوبيّة الروح القدس في إطار مقاومة التجارب والجهاد ضدّ مغرياتها. أن نسلُك وننقاد بهُدى الروح ليس أمرًا سهلاً، لأنّ أعداء الروح يجهدون لتقويض جهودنا. ففي السياق ذاته يتحدّث المزمور ١٤٢ أيضًا عن خبرة هذا الصراع مع أعداء الروح: «لأنّ العدوّ قد اضطهدَ نفسي وأذلَّ إلى الأرضِ حياتي، وأجلسني في الظلمة مثل الموتى منذ الدهر».

فإنّ الروح القدس يتميّز عن الروح الإنسانيّة ويختلف عنها. في الواقع، هذا المزمور يتكلّم على الروح البشريّة ويصفها بأنّها قد «ضجرت» و«اضطربت». لروحنا الإنسانيّة الضعيفة، الروح القدس هو نبع الرجاء المتجدّد لأنّ «الروح نفسه أيضًا يشهد لأرواحنا أنّنا أولاد الله. فإن كنّا أولادًا فإنّنا ورثة أيضًا، ورثة الله ووارثون مع المسيح. إن كنّا نتألّم معه لكي نتمجّد أيضًا معه» (رومية ٨: ١٦-١٧). هذا هو النضال اليوميّ، والمعاناة المستمرّة التي ينشغل بها المزمور ١٤٢.

بالمقابل، أساس هذا الجهاد النُسكيّ كلّه هو النعمة لا الناموس بحسب تعليم بولس في غلاطية ٥ ورومية ٨، ما يُسهم في تفسير المزمور ١٤٢ حين يصلّي: «استجب لي بعدلكَ» لا عدالتنا، ويكمل متضرّعًا: «ولا تدخل في المحاكمة مع عبدك، لأنّه لن يتزكّى أمامك أيّ حيّ».

تحرص أمّنا الكنيسة على تعليمنا ذلك بطريقة مميّزة، بخاصّة خلال الصوم الكبير حين يكون جهادنا النُسكيّ في أوجه. وتاليًا، هي تجعلنا نشرع في بدء هذا الموسم الصياميّ بعمليّة تقويم أنفسنا ومحاسبتها بواسطة القانون الكبير للقدّيس أندراوس الكريتيّ، وفي الآحاد مع القدّاس الإلهيّ الذي وضعه باسيليوس الكبير، حيث نصلّي في الأنافورا: «…لا من أجل برِّنا، لأنَّنا لم نصنع شيئًا من الصلاح على الأرض، بل من أجل مراحمك ورأفاتك التي أفضتها علينا بسخاء…». لا شيء أبعد من ديانة المسيح الحقّ عن

عمليّة تبرير الذات والشعور «بالرضى عن أنفسنا». الأمر الأكيد عن الضمير المتكلّم في المزمور ١٤٢، هو ظهوره بمظهر لا يخالجه أدنى شعور بالرضى عن النفس.

يعزّز المزمور صورة المؤمن الرافع يديه على شكل صليب، كما تعكسه الأعمال الفنّيّة للمسيحيّين الأوائل وكتاباتهم الأدبيّة، ما يُظهر أنّ هذه الطريقة كانت المُفضّلة لديهم للصلاة: «إليكَ بسطتُ يديَّ».

للمزمور أيضًا دلالات مسيحانيّة واضحة باتّجاه واضح لسبت راحة يسوع في القبر، السبت العظيم، في انتظار أحد القيامة. ربّما لذلك رتّبت الكنيسة هذا المزمور في صلاة النوم اليوميّة أيضًا، وهكذا كأنّها تريدنا أن نَسْبتَ مع الربّ مساء كلّ يوم لنعود إلى القيام معه عند صلاة السَحَر أيضًا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إليكَ بسطتُ يديَّ