...

الإيقونة

 

 

قاعدة حياتنا في المسيح نستمدّها ممّا يجري في كنيستنا. إن كنّا في الكنيسة نصلّي مثلاً، ففي بيتنا يجب أن نصلّي أيضًا. وإن كنّا نقرأ كلمة الله ونوزّع معانيها، ففي بيتنا يجب أن نقرأ الكلمة ونجتهد في طلب معانيها أيضًا. وإن كنّا في الكنيسة نبخّر، ففي بيتنا يجب أن نبخّر. وإن كنّا نضع الإيقونات، ففي بيتنا أيضًا وأيضًا… فالكنيسة بيتنا بهذا المعنى الذي يجعل البناء المخصّص لله إيقونة حياتنا في كلّ شيء.

سأنحصر، في هذه السطور، في الكلام على الإيقونة.

معظمنا يعلم أنّ الكنيسة أقرّت عقيدة تكريم الإيقونات (وذخائر القدّيسين) في المجمع المسكونيّ السابع الذي انعقد في نيقية في العام ٧٨٧. هذا، الذي التأم في أثناء حرب اضطُهدت فيها الأيقونة ما يزيد على القرن، استدعى، (بعد انتهاء الحرب)، ظهور هذا الحائط الذي نسمّيه الإيقونسطاس (حامل الإيقونات) الذي يفصل الهيكل عن صحن الكنيسة. لهذا الحائط أهمّيّات عديدة. أهمّها أنّه يكشف أنّ ما نعتقد به نحفظه وندافع عنه حتّى النهاية، بل نترك هذه المدافعة إرثًا لأولادنا وأحفادنا (قلنا، الآن، إنّ اضطهاد الإيقونة استمرّ أكثر من قرن). نحن، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، نعيّد لانتصار الإيقونة في الأحد الأوّل من الصوم الكبير (أحد الأرثوذكسيّة). هذا نجدّده كلّما وقفنا، في الكنيسة، أمام إيقوناتها!

لنفصّل قليلاً ما قلناه. لم يكن لهذا الإيقونسطاس أن يظهر، لو لم يحفظ المؤمنون إيقوناتهم في بيوتهم. هذا انتصار الكنيسة أنّ كلّ عضو فيها مسؤول عنها كلّها. الإيمان، تعليمًا وحياةً، ليس مسؤوليّة الأساقفة والكهنة وحدهم، أي القادة في الجماعات فقط، بل هو مسؤوليّة كلّ مَن يعتقد أنّ للحقّ أهلَهُ في الأرض. «شعب الله يحفظ الإيمان». هذا يجب أن يعني لنا أنّ من جوهر اعتقادنا حفظ العقيدة القويمة أن نحتفظ، في بيوتنا، بإيقونة للربّ أو لوالدة الإله أو لأحد القدّيسين (شفيع أحد أفراد أسرتنا، مثلاً). كلّ غرض نقتنيه لبيتنا، هذا يمكننا اعتباره من أثاث بيتنا. أمّا الإيقونة، فأساسه. أجل، الإيقونة أساسه.

هذا كلّه يوحي بأنّ الإيقونة تخصّنا كلّنا، واحدًا واحدًا. كلٌّ منّا يجب أن يقتني إيقونةً قانونيّةً له (أو لعائلته). هذه لا تخصّ المياسير فقط (أي القادرين على اقتنائها). أيُّ إنسان يجب أن يقتني إيقونته. ما من بيت يكمل من دون إيقونة. ما من وجه يكمل إن لم يختبر أن ينحني أمام ضياء الإيقونة (أو إن لم يطلّ من هذه النافذة المفتوحة على سماء الله). هذا مداه العمليّ أن نصلّي. فنحن لا نضع الإيقونة زينةً في بيوتنا (وإن كانت من أروع فنون الأرض). لا أعني أنّ المسيحيّ لا يصلّي إن لم يوجد في منزله إيقونة. لكنّنا تسلّمنا إرثًا أنّ المؤمن، الذي يتأمّل في وجه يسوع (أو أحد القدّيسين) فيما يصلّي، يكون أقدر على التركيز.

إذًا، متى آن أوان صلاتنا اليوميّة، نقوم إلى مخدعنا، ندخله، ونقف أمام الإيقونة التي نكون قد ثبّتناها على حائط الغرفة الشرقيّ. هذا دليلنا على أنّها ترتبط بالنور، بل أنّها تأتينا بالنور أيضًا. وكما نضيء أمام الإيقونة قنديلاً أو شمعةً في الكنيسة، ففي بيتنا، (إن أمكن)، نضيء أمامها قنديلاً أو شمعةً أيضًا. ونبخّرها. ونسجد أمامها، ونقبّلها، كما أوصى آباء المجمع في نيقية، كما لو أنّنا نقبّل صاحبها. فـ«إكرام الإيقونة يجوز (أي يعبر) إلى أصلها». هذا إثبات تراثنا أنّ الإيقونة حضورُ مَن صوِّر عليها.

قبل أن أختم، أودّ أن أذكر أمرًا له قيمته بالنسبة إليَّ. أعرف طفلة، منذ أن كانت رضيعة، إن حملها أحد ذويها ودار فيها في البيت، كانت، متى وصلت إلى الإيقونة المثبّتة في إحدى الغرف، تقفز عيناها من وجهها، وتمدّ يديها وجسدها كلّه كما لو أنّها تريد أن تعانق الشخصّ الذي تراه فيها. هذه الطفلة قالت لنا إنّ مياه المعموديّة، التي ننزل فيها، تكتب علينا، قبل أن نتفتّح في نطق الوعي، محبّاتٍ خلاصيّة!

هذه الدنيا كلّها إلى زوال. هذا الناس كلّهم يعرفونه. ولكنّ المؤمن الحقيقيّ، على ذلك، وحده يعرف أنّ ثمّة ما يبقى. وما يبقى أن نحيا حياتنا اليوميّة (أي في تفاصيلها اليوميّة) امتدادًا لحياة كنيستنا. هل ثمّة أروع من أن نزرع في عينينا محبّة «القداسة التي بغيرها لا يرى الربَّ أحدٌ» (عبرانيّين ١٢: ١٤)؟ الإيقونة، إن اقتنيناها في بيوتنا وبنينا معها علاقةً حيّةً في كلّ يوم، لا تبقى وحدها، بل تبقينا أيضًا!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإيقونة