...

الصبر والاحتمال في خبرة التعرّض للظلم والافتراء

يستعمل الكتاب المقدّس الكلمة اليونانيّة (ὑπομονῇ upomony) للدلالة على الصبر. لا يعني هذا المصطلح باليونانيّة أمرًا سلبيًّا، بالعكس تمامًا، فهو يعني التحمّل بفرح، لأنّ نتائج إيجابيّة ستأتي إذا صبرنا. نقرأ، على سبيل المثال، عند لوقا الإنجيليّ في مثل الزارع، أنّ الزرع، أو كلام الله، الذي يسقط في الأرض الجيّدة هو «الذين يَسْمَعون الكَلمَةَ ويَحْفظونَها في قلبٍ جيِّدٍ مُسْتقيمٍ، ويُنْتِجون ثَمَرًا بالصّبْر» (لوقا ٨:١٥). كذلك نسمع الربّ يقول «بصبركم تقتنون نفوسكم» (لوقا ٢١: ١٩). ومن أجمل ما كُتب في موضوع الصبر نقرأه في الإصحاح الثالث من كتاب يشوع بن سيراخ: «إنْ أرَدتَ خِدمةَ الربّ، فاَستَعِدَ يا اَبْني لِلتَّجرِبةِ. كُنْ حازِمًا مُستَقيمَ القلبِ، ولا تتسَرَّعْ وقتَ المَصائِبِ. تمَسَّكْ بِالربّ ولا تَبتَعِدَ عَنهُ، فتُكْرِمَ أواخِرَ حياتِكَ. تقَبَّلْ ما يَحِلُّ بِكَ، واَصْبِرْ على اَتِّضاعِ مَقامِكَ. فالذَّهبُ تُطَهِّرُهُ النَّارُ. وخِيرةُ النَّاسِ يُطَهِّرُهُم جَمْرُ الاتِّضاعِ. آمِنْ بِالربّ فيُساعِدَكَ. قَوِّمْ طريقَكَ وثِقْ بِهِ. يا مَنْ تَخافُ الربّ اَنتَظِرْ رَحمتَهُ، وحينَ تَسقطُ، لا تَمِلْ عَنهُ. الربُّ رَؤُوفٌ رَحيمٌ، في الضِّيقِ يَغفِرُ الخَطايا ويُخَلِّصُ… فرَحمةُ الرب على قَدْرِ عظَمَتِه».

الصبر إذًا أمرٌ يعود على صاحبه بالمنفعة. أوّلًا، لأنّه يقي الإنسان من السقوط في اليأس مهما قست الظروف عليه، وثانيًّا، لأنّ من يصبر ينظر برجاء إلى «الربح» الروحيّ والمعنويّ ما بعد المحنة. وفي هذا السياق يقول الرسول «بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي» (رومية ٥: ٣-٥).

ولنا في الكتاب آيات عديدة تتكلّم على الصبر. كذلك لدينا أمثلة عن أشخاصٍ صبروا، فتوّج الله صبرَهم إكليلًا على رؤوسهم. فلنأخذ من سفر التكوين قصّة يوسف الصدّيق مثلًا. باعه إخوته كعبدٍ. هل هناك أفظع من خيانة إخوته له؟ ومع هذا صبر على كلّ شيء وخدم حتّى كعبدٍ، ورغم اتّهامه باطلًا من امرأة فوطيفار، وزجّه بالسجن، إلّا أنّه بقي أمينّا لله، الذي حوّل هذه الضيقة، في وقت يراه هو مناسبًا، إلى خيرٍ ليوسف. فصار الوزير الأوّل في مصر وأنقذ إخوته وقبيلته كلّها من الموت. (تكوين إصحاحات ٣٧-٥٠).

إذًا المسألة تحتاج إلى صبر، وأن ننتظر الربّ، ونؤمن بأّنه قادرٌ على أن يحوّل الشر إلى خير. لا توجد مشكلة تستمرّ إلى الأبد. سيأتي يومٌ موافقٌ وتنتهي. كلّ المسألة أنّنا نحتاج إلى صبرٍ مبنيٍّ على الإيمان.

مثلً آخر للصبر نتعلّمه من الفتية الثلاثة في الإصحاح الثالث من سفر دانيال النبيّ. فقد أمر نبوخذنصّر، ملك بابل، بطرح حنانيا وميصائيل وعازريا في أتون النار. إذ وشى بهم الكلدانيّون أنّهم لم يطيعوا أمر الملك وأبَوا السجود لتمثال الذهب. وفضّلوا الحريق على أن يسجدوا لغير الإله الحقّ. وعوضًا من أن تلتهم ألسنة اللهب الفتية نزل ملاك الربّ إلى الأتون وطرد لهيب النار وجعل في وسط الأتون ما يشبه نسيم الندى المنعش فلم تمسّهم النار البتّة، فسبّحوا وباركوا الله. موقف الفتية الثلاثة وثباتهم على إيمانهم

جعل الملك العظيم نبوخذنصّر يعترف بقدرة الله الذي «أرسل ملاكه وأنقذ عبيده الذين توكّلوا عليه وخالفوا أمر الملك وبذلوا أجسادهم لئلّا يعبدوا ويسجدوا لإله غير إلههم». (دانيال ٣: ٩٥).

وفي القرن الماضي نقرأ عن كاهنٍ روسيٍّ يتكلّم بفرحٍ وامتنان على ما تعرّض له من ظلمٍ. قال لأحدهم مرّةً، وعيناه تلمعان بالامتنان والعجب: «لا يمكنك أن تتصوّر كم كان الربُّ محسنًا إليّ! في أيّام الثورة البولشيفيّة، عندما كان محظورًا على الكهنة دخول أيّ سجنٍ أو أيّ مخيّمٍ، اختارني الربُّ، أنا الكاهن غيرَ المستحقّ وعديم الخبرة، وأرسلني لأكون كاهنًا حيث الحاجة كانت الأكبر. تمّ توقيفي، أمضيْتُ سنةً في السجن، والسنوات الستّ والعشرين اللاحقة في معسكر اعتقالٍ، بين أناسٍ كانوا بحاجةٍ إليَّ، بحاجةٍ إلى الربِّ، بحاجةٍ إلى كاهن». وكلّ ما قاله عن هذه المحنة كان شكرًا غير متناهٍ للربّ الذي اختاره ليُصلب من أجل أن يعيش الآخرون.

الأمثلة التي ذُكرت لديها قاسمٌ مشتركٌ ألا وهو أنّ الصبر هو فاعلٌ. الصبور هو المبادر لا المستسلم. الصبور هو وجه الرجاء، أمّا المستسلم فهو وجه الخنوع. الصبور يتكلّم بجرأة كما فعل الفتية الثلاثة. يكافح من أجل الحقّ. لا يسكت ولا يقبل بالظلم، ولكن متى حلّ به فهو يصبر عليه.

فلنقارن أنفسَنا، مصيرَنا، عذاباتِنا، بهذه الأمثلة، لربما استطعنا عندها أن نتعلّم مواجهة الظلم، وكلّ ما يُرمى علينا من افتراءاتٍ، بالصبر الفاعل لا الخانع. وهذا الثبات قد نتعلّمه ليس من تدريب مشيئتنا، بل من تسليمها كلّيًّا لله، عربونَ شُكرٍ على كونه راعينا، وحافظَ حياتِنا وعالِمَ مصلحتنا. وإذا سلّمْنا أنفسَنا بين يديه وسمحْنا لنعمته بأن تعمل فينا بحرّيّةٍ، حينها يكون كلُّ شيءٍ على ما يُرام. هكذا كلّ ظلم وافتراء يكون درسًا لنا على أرض الواقع لنتعلّم الصبر، ونعلّمه لا بالنظريّات ولا بكثرة الكلام، نعلّمه أمثلةً معاشة. ولنحترز من أن نكون ظالمين، إن لم نمشِ مع كلّ مظلوم على الأرض، نستنشق كلّ ألم في الدنيا لنشهد لكلّ فرح فيها يأتينا من المسيح القائم، الموجود فينا ومُحرّكنا ومحيينا جميعًا. ولا ننسينَّ أبدًا أنَّ إلهَنا هو «إله الصبر والتعزية» (رومية ١٥: ٥).

Raiati Archives

الصبر والاحتمال

في خبرة التعرّض للظلم والافتراء