...

معالم ارتفاعنا على الصليب

  

 
في الأحد الذي يسبق رفع الصليب، يساعدنا نصّ الإنجيل على أن نتهيّأ للاحتفال بحدث غيّر وجه البشريّة إلى الأبد، وهو ارتفاع يسوع على الصليب. نتبيّن من القراءة الإنجيليّة حركة انتقال من واقع إلى آخر يُدخِلنا في عمق تدبير الله من جهتنا ويساعدنا على تبيان معالم ارتفاعنا على الصليب. فما هي عناصر حركة الانتقال هذه وكيف ترسم معالم ارتفاعنا على الصليب؟
أوّلًا، حركة انتقال بين السماء والأرض. هذه دعاها يسوع حركة نزول من السماء وصعود إليه، في إشارة واضحة إلى سرّ تجسّده، والذي تتوّج بإعلان محبّة الآب بابنه المرفوع على الصليب. ففي حركة نزول الابن تجسيد لمحبّة الآب للإنسان وعنايته به، وفي حركة صعود الابن على الصليب تجسيد لالتزامه الدائم بخلاص الإنسان.
ثانيًا، حركة انتقال من شخص موسى إلى شخص المسيح. فالأوّل قاد الشعب العبرانيّ من عبوديّة مصر إلى أرض الميعاد، أمّا الثاني فيقود شعبه، البشريّة المؤمنة به، من عبوديّة الخطيئة والشرّ والشيطان والموت إلى الشركة مع الله والإقامة في ملكوت النعمة والصلاح والبرّ الذي فيه.
ثالثًا، حركة انتقال من الشعب العبرانيّ السالك في البرّيّة حينها والمتّجه إلى أرض الميعاد، إلى حقيقة انتقال البشريّة المدعوّة إلى الإيمان بيسوع المسيح لتؤلّف شعب الله، جسده الحيّ، أي الكنيسة التي هي أرض الميعاد الحقيقيّ حيث نصير ورثة الإله الحقيقيّ وأبناءه وأخصّاءه.
رابعًا، حركة انتقال العالم من الهلاك إلى الخلاص. وهذا حصل رمزيًّا بالعود الذي رفعه موسى في البرّيّة يومًا، والآن بالعود المحيي المرفوع مرّة في أورشليم والمنصوب أبدًا في وسط الفردوس. وكما كانت معاينة ذاك العود في البرّيّة سبيلًا لشفاء مَن لسعتهم الحيّات، كذلك الآن فإنّ مَن تأمّل بالمسيح المرفوع على الصليب وجد شفاء من الخطيئة المعشّشة فيه، وحصنًا أمام التجارب، وثقة بمحبّة الله، وقوّة يستمدّها من المصلوب.
خامسًا، حركة انتقال بين محبّة الآب للعالم ومحبّة الابن للآب. حركة المحبّة هذه تحملنا وتطمئننا، إن دخلنا في حركتها بالإيمان. حريّ بها أن تشكّل شبكة الأمان التي نركن إليها وننطلق منها، أن تغذّينا ونغذّي بها سوانا. مَن آمن حقًّا استمدّ من محبّة الله هذه عناصر الحياة والحكمة والخدمة والصلاة، وبذلها على مذبح الله والقريب.
سادسًا، حركة انتقال من الحياة الحاضرة إلى الحياة الأبديّة. فالشركة الحيّة التي تجمع الكنيسة المجاهدة بالكنيسة الظافرة تشكّل المدى الذي يجعل من الناظرين إلى المرفوع على الصليب والمتأمّلين بتدبيره المحيي، وتشكّل أيضًا الرافعة التي تعين المؤمنين في رفع حياة العالم إلى الله واستدرار نعمته عليه. هكذا يتقدّس الإنسان المنتمي إلى هذا الجسد ويمدّ العالمَ الذي يعيش فيه بحياة هذا الجسد، بحيث يقدّسه «بنعمة ربّنا يسوع المسيح، ومحبّة الله الآب، وشركة الروح القدس».
سابعًا، حركة انتقال بين صليب يسوع وصليبنا. بالصليب أدخل يسوع إلى العالم مبدأ الحياة الجديدة والخلاص. فالذين يحملون الصليب كما حمله يسوع يأخذون على عاتقهم أن ينهلوا من محبّة الله ويشاركوها مع أترابهم في العالم. فيصير صليبهم وصليب المسيح واحدًا، أي شهادة لمحبّة الله المخلّصة للعالم والمحيية إيّاه والمغذّية له. فيكون المسيح والمسيحيّ واحدًا بداعي حملهم الصليب ذاته وارتفاعهم عليه حتّى يمجّد الآب أبناءه كما مجّد ابنه الوحيد.
على هذا المنوال، نتهيّأ لنرتفع على الصليب ونثبت عليه ولا ننزل عنه إلّا متى شاء الربّ ذلك. أمّا قوّة الثبات عليه فتأتي من أن نضع نصب أعيننا عود الصليب الذي ارتفع عليه يسوع حبًّا بنا ومن أجلنا، ونستمدّ من محبّته القوّة على المضي في مواجهة صعاب هذا الدهر من دون الاستسلام لها أو التخلّي عن إيماننا بالقادر على أن يعيننا فيها. هلّا حملنا إذًا هذه الشهادة في كنيستنا: «هكذا أحبّ اللهُ العالمَ حتّى بذل ابنَه الوحيد» (يوحنّا ٣: ١٦)؟
+ سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

الرسالة: غلاطية ٦: ١١-١٨
يا إخوة، انظروا ما أعظم الكتابات التي كتبتُها إليكم بيدي. إنّ كلّ الذين يريدون أن يُرضُوا بحسب الجسد يُلزمونكم أن تَختتنوا، وإنّما ذلك لئلّا يُضطهَدوا من أجل صليب المسيح، لأنّ الذين يختتنون هم أنفسهم لا يحفظون الناموس بل إنّما يريدون أن تختتنوا ليفتخروا بأجسادكم. أمّا أنا فحاشى لي أن أفتخر إلّا بصليب ربّنا يسوع المسيح الذي به صُلِب العالم لي وأنا صُلبت للعالم؛ لأنّه في المسيح يسوع ليس الختان بشيء ولا القلف بل الخليقة الجديدة. وكلّ الذين يسلكون بحسب هذا القانون فعليهم سلام ورحمة، وعلى إسرائيلِ اللهِ. فلا يجلبْ عليَّ أحدٌ أتعابًا في ما بعد فإنّي حامل في جسدي سِماتِ الربّ يسوع. نعمةُ ربّنا يسوع المسيح مع روحكم أيّها الإخوة، آمين.

الإنجيل: يوحنّا ٣: ١٣-١٧
قال الربّ: لم يصعد أحد إلى السماء إلّا الذي نزل من السماء، ابنُ البشر الذي هو في السماء. وكما رفع موسى الحيّةَ في البرّيّة، هكذا ينبغي أن يُرفع ابنُ البشر كيلا يهلِكَ كلّ مَن يُؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة، لأنّه هكذا أَحَبَّ اللهُ العالم حتّى بذل ابنه الوحيد كيلا يهلِكَ كلّ مَن يُؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة. فإنّه لم يرسل اللهُ ابنه الوحيد إلى العالم ليدين العالم بل ليخلِّص به العالم.

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معالم ارتفاعنا على الصليب