...

كلمة الراعي المعرفة البشريّة بين المعرفة الإلهيّة والمعرفة الشيطانيّة

في حادثة شفاء المخلّع يستوقفنا اتّهام الكتبة في سرّهم ليسوع وحكمهم عليه بالتجديف على الله. فهو، بالنسبة إليهم، عندما أعلن يسوع للمفلوج أنّ خطاياه مغفورة، انتحل صفة الله، كما تشير عادة استخدام صيغة الفعل المبنيّ للمجهول: «يا بنيَّ، مغفورة لك خطاياك» (مرقس ٢: ٥). فمن أين للكتبة المعرفة ليقولوا في سرّهم: «لماذا يتكلّم هذا هكذا بتجاديف؟ مَن يقدر على أن يغفر الخطايا إلّا الله وحده؟» (مرقس ٢: ٦)؟ تطرح هذه الحادثة علينا مسألة المعرفة البشريّة وعلاقتها بالمعرفة الإلهيّة والمعرفة الشيطانيّة.

الله يعرف الخليقة بالمحبّة، فهو يقاربها بالمحبّة لكي تنمو وترتقي وتستحيل ملكوتًا سماويًّا، أي مكانًا للشركة بينه وبين الإنسان المخلوق على صورته. هذا اكتشفناه في وجه يسوع المسيح، وقد أبرز لنا هذه الحقيقة بتجسّده ورأينا انعكاسها في حادثة شفاء المفلوج. فالشركة الإلهيّة-الإنسانيّة إنّما تُبنى على معرفة إرادة الله وعلى تحقيقها من قبل الإنسان المؤمن في محيطه وبين أترابه.

أمّا المعرفة الشيطانيّة فهي مبنيّة على التغرّب عن إرادة الله ومحاربتها بشكل غير مباشر، أي عبر حرْف الخليقة عن غايتها لتكون المسرح الذي تبتدئ منه الشركة بين الله والإنسان، وكيل الله الأمين على الأرض. لذا يسعى الشيطان بشتّى الوسائل إلى أن يعطّل عمل الله الخلاصيّ فيعمي عيونَ الإنسان عن معرفة المسيح والإيمان به والسجود له، ويصمّ آذانَهم عن سماع صوت الحقّ. لا يظهر دوره مباشرة في حادثة شفاء المفلوج، لكنّه هو المستفيد الأوّل من اتّهام الكتبة ليسوع بالتجديف وكيف يصيبون مقتلًا في عمل الله من أجل خلاص الإنسان. تنبّه يسوع لخطورة الأمر فخاطب عقول الكتبة عبر طرحه عليهم السؤال: «أَيّـما أيسر: أن يُقال للمفلوج مغفورة لك خطاياك أم أن يُقال: قُمْ واحملْ سريرك وامشِ؟» (مرقس ٢: ٩). هكذا أصاب يسوع عصفورَين بحجر واحد: من جهة، ثبّت حقّه بمنح غفران الخطايا

ووهب الصحّة للمفلوج، ومن جهة أخرى، حمل الكتبة على إعادة النظر بتفكيرهم بشأن هويّته، وتاليًا أن يستقوا المعرفة من مصدرها الصحيح والحقيقيّ.

كلّنا يدرك أنّ المعرفة البشريّة تنطلق من دراسة معطيات العالم المخلوق وتبقى محدودة به. ولكن يمكن تطعيم هذه المعرفة بالإيمان فترقى الثانية بالأولى إلى معرفة إرادة الله، أو على العكس، يمكنها أن تتأثّر، بفعل إفساح الإنسان لنفسه، بقصد أو بغير قصد، بقبول المعرفة الشيطانيّة. المعرفة الإلهيّة تمنح الإنسان معرفة بلّوريّة صافية عن حقيقة الأشخاص والأشياء، حقيقة وجودها وغايتها، وهذا يكون بروح التواضع وسلام النفس والصلاح. أمّا المعرفة الشيطانيّة فهي وليدة العجرفة والأنانيّة والسوء، فتحرّك أهواء الإنسان باتّجاه الانفصال عن الشركة مع الله ويتخلّى عن نعمته الإلهيّة.

في حادثة شفاء المفلوج ارتقتْ معرفةُ الجمع درجة في سلّم معرفة إرادة الله، عندما رأوا المفلوج منتصبًا على قدمَيه وحاملًا سريره. فهم سمعوا المسيح يجيب عن سؤاله للكتبة: «لكن لكي تعلموا أنّ لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا؛ قال للمفلوج: لك أقول قُمْ واحمِلْ سريرك واذهبْ إلى بيتك» (مرقس ٢: ١٠-١١). فيسوع إنّما أتى ليحقّق إرادة الله بإعادة شركة الإنسان بالله. والجموع تلقّفت الأمر بأن أظهرت تعجّبها ودهشها وتمجيدها لله بقولها: «ما رأينا مثل هذا قطّ» (مرقس ٢: ١٢).

هكذا استبانت، في محاولة الرجال الأربعة الذين أتوا بالمفلوج إلى يسوع، الفرصة ليستعلن حقّ الله منّا: أن نعرفه ونكون في شركة معه، فيرتقي بمعرفتنا البشريّة من مستوى المعرفة الشيطانيّة إلى مستوى المعرفة الإلهيّة. بهذا يجد الإنسان الإيمان؛ بهذا يجد راحته والسلام والعافية؛ وبهذا يحيا ويتحرّك ويوجد (أعمال ١٧: ٢٢). ما أحلى أن نأتي بقلوبنا إلى هذه المعرفة ونأتي بالآخرين إليها أيضًا، فنستقرّ ونستريح مع المسيح في الصلاة والخدمة والمحبّة الأخويّة! هلّا فعلنا هذا باسم يسوع، ومن أجل مجد أبيه، بنعمة الروح القدس؟

+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: عبرانيّين ١: ١٠-١٤، ٢: ١-٣

أنت يا ربّ في البدء أسّستَ الأرض، والسماواتُ هي صُنْعُ يديك، وهي تزول وأنت تبقى، وكلّها تبلى كالثوب وتطويها كالرداء فتتغيّر، وأنت أنت وسِنوك لن تفنى. ولمن من الملائكة قال قطّ: اجلسْ عن يميني حتّى أَجعل أعداءك موطئا لقدميك؟ أليسوا جميعُهم أرواحا خادمة تُرسَل إلى الخدمة من أجل الذين سيرثون الخلاص؟ فلذلك يجب علينا أن نُصغي إلى ما سمعناه إصغاءً أشدّ لئلّا يسرب من أَذهاننا. فإنّها إن كانت الكلمة التي نُطق بها على ألسنة ملائكة قد ثَبَتَت، وكلّ تعدّ ومعصية نال جزاء عدلاً، فكيف نُفلتُ نحن إن أهملنا خلاصًا عظيمًا كهذا قد ابتدأ النُطقُ به على لسان الربّ ثمّ ثبّتَهُ لنا الذين سمعوه؟

 

الإنجيل: مرقس ٢: ١-١٢

في ذلك الزمان دخل يسوع كفرناحوم وسُمع أنّه في بيت. فللوقت اجتمع كثيرون حتّى إنّه ما عاد موضع ولا ما حول الباب يسع، وكان يخاطبهم بالكلمة. فأَتوا إليه بمخلّع يحملهُ أربعة، وإذ لم يقدروا على أن يقتربوا إليه لسبب الجمع، كشفوا السقف حيث كان، وبعدما نقبوه دلّوا السرير الذي كان المخلّع مضّجعًا عليه. فلمّا رأى يسوع إيمانهم، قال للمخلّع: يا بنيّ، مغفورة لك خطاياك. وكان قوم من الكتبة جالسين هناك يُفكّرون في قلوبهم: ما بال هذا يتكلّم هكذا بالتجديف؟ من يقدر على أن يغفر الخطايا إلّا الله وحده؟ فللوقت علم يسوع بروحه أنّهم يفكّرون هكذا في أنفسهم فقال لهم: لماذا تفكّرون بهذا في قلوبكم؟ ما الأيسر، أن يُقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يُقال قم واحمل سريرك وامش؟ ولكن لكي تعلموا أنّ ابن البشر له سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا، قال للمخلّع: لك أقول قُم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك. فقام للوقت وحمل سريره وخرج أمام الجميع حتّى دهش كلّهم ومجَّدوا الله قائلين: ما رأينا مثل هذا قطّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

المعرفة البشريّة بين المعرفة الإلهيّة والمعرفة الشيطانيّة