...

واقع التعالي وإقصاء الآخر ومداواته

 

يُقيّم مثل الفرّيسيّ والعشّار التواضع الذي تعتبره المدنيّة الحاضرة ضعفًا ومذلّة. إنّه رأس الفضائل لأنّه يحارب الكبرياء، رأس الرذائل.

يمثّل الفرّيسيّ نمط إنسان اليوم، المقتنع بقدراته الذاتيّة والذي يحصر علاقته بالله ببعض «الفرائض» الخارجيّة، متجاهلًا أنّ هذه العلاقة لا تكون فاعلة إلّا بمحبّة الآخرين.

عالم اليوم هو عالم الفرديّة والتقوقع على الذات وتمجيد الأنا بامتياز. بابتعاد الإنسان عن الله يجعل هذا العالم منه إلهًا بديلًا. فيعتبر هذا الإنسان أنّه محور كلّ شيء، وكلّ شيء متاح له، حتّى إذا تعدّى على الآخرين. أفقدتنا المدنيّة الحديثة كلّ حسّ بالخطيئة، وأقنعتنا بأنّه يحقّ لنا أن نمجّد ذواتنا وننظر إلى الآخرين نظرة متعالية، فوقيّة، ونعتبر أنّ التواضع لا يليق يإنسان عاقل. تخشى طبيعتنا الساقطة الآخر. مَن يخاف من الآخرين يرفض المجادلة والنقاش واختلاف الآراء. يجعل من الآخرين أعداء له كي يضفي عليهم تساؤلاته وقلقه، بخاصّة في أيّام المآسي التي تُشعره بهشاشته وضعفه.

يتناسى الفرّيسيّ النهج أنّ الخوف غُلب مرّة واحدة على الصليب. وأنّ القائم من بين الأموات أزال كلّ كراهيّة، داعيًا الناس إلى المحبّة والأخوّة، معلّمًا إيّاهم أنّهم ما عادوا بحاجة إلى «كبش للمحرقة»، لأنّ الإنسان الآخر هو شريكهم في الإنسانيّة، ولا يحقّقون ذواتهم إلّا في التواصل المحبّ معه.

أمّا العشّار فيمثّل الإنسان العارف بضعفه، المتّكل على الله، والذي يعتقد أنّ لا سبيل إلى الخلاص إلّا في رحمته تعالى.

نكتسب التواضع بعمل مشترك بيننا وبين الله. علينا أوّلًا أن نعرف ذواتنا بممارسة فحص للضمير دائم والإقرار بأخطائنا. والطلب إلى الله أن يفتح أمامنا «أبواب التوبة». التوبة الحقيقيّة تغيّر الذات وتقلب المقاييس وتجعلنا كما أرادنا الله عندما دمغ صورته فينا. نتغيّر حقًّا إذا تمثّلنا بيسوع الذي قال: «تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب». نتعلّم من يسوع بالتعرّف إلى فكره في الكتاب المقدّس، والحوار معه في الصلاة، والاندماج فيه في سرّ الشكر والليتورجيا، وأخيرًا وليس آخرًا، بلقائه وخدمته في الإنسان الذي اختار أن يسكن فيه. فقط عندما ينمو المسيح فيّ وينقص الأنا أصبح متواضعًا. يكمن ميزان التواضع «في الغفران لأخيك الذي أساء إليك قبل أن يطلب المغفرة»، كما قال أحد آباء الصحراء. ويوصينا الآباء بعامّة بأن نمتنع عن كلّ إدانة. فكيف نتجرّأ على أن نطلب إلى الله أن «اغفر لنا ما علينا كما نغفر لمَن لنا عليه»، إذا كنّا نضمر الشرّ لأخوتنا؟

لا يمكننا الوصول إلى التواضع الحقيقيّ إلّا بمعونة الله. لذلك، لا بدّ من صلاة العشّار «اللّهمّ ارحمني أنا الخاطئ». إنّ تنهّدًا واحدًا منه، وصرخة واحدة من اللصّ الشكور، كانا كافيين لكشف محبّة الله لهما. لا تنفع الصلاة والاشتراك في الخِدم الإلهيّة إن لم يقترنا بالمناقب الإنجيليّة في الحياة اليوميّة. لا تواجَه تحدّيات العالم الحديث بإطلاق الأحكام ضدّه، بل بشهادة مَن يقتدي بالمسيح في حياته وعلاقته بالآخرين.

نتهيّأ لمثل هذا العيش في الجماعة الكنسيّة، فنعي أنّنا، كلّما اشتركنا في القدّاس الإلهيّ، نُعلن إيماننا بالثالوث القدّوس المحبّة، ونؤكّد محبّتنا لبعضنا بعضًا. وبعد اتّحادنا بجسد الربّ ودمه الكريمين، نحمل حضور الربّ فينا إلى العالم الذي لا يعرفه. ولن يعرفه العالم إلّا إذا أحببنا بعضنا بعضًا وأحببنا الجميع، وتجسّدت هذه المحبّة في سلوكنا وأعمالنا.

ألا أعطانا الله أن نبدأ هذه الفترة التحضيريّة للصوم الأربعينيّ المقدّس بالتزام التواضع المؤدّي إلى المحبّة، عسانا نُصبح قياميّين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

واقع التعالي وإقصاء الآخر ومداواته