...

كلمة الراعي الزارع الإلهيّ والحقل البشريّ

لم ينقطع الله عن محاورة الإنسان عبر التاريخ وهو أبدع حينما جعل ابنه الوحيد يسوع المسيح محاورنا بامتياز. ابتغى يسوع عبر هذا «الحوار» أن يزرع فينا محبّة الله والشركة معه ومعرفة الحقّ، فنحيا مع أبيه. أخذ حواره معنا أشكالًا مختلفة وأوجهًا متعدّدة، زرع الابن فيها الزرع الذي أراده أبوه. فما هي هذه الأوجه؟

أوّلًا، خروجه من حضن الآب. خرج الابن الوحيد من حضن الآب وتجسّد من أجلنا. صار مثْلنا ما خلا الخطيئة. مدّ جسر الحوار معنا باتّخاذه طبيعتنا البشريّة واتّحادها بطبيعته الإلهيّة في شخصه. خاطبنا بكلام الله وجسّد مشيئته بيننا لنراها ونعرفها ونتبنّاها ونؤمن بها ونحيا بمقتضاها.

ثانيًا، مثاله. تمّم يسوع في شخصه كلّ وصايا العهد القديم والعهد الجديد. بالفعل هو المثال بامتياز للإنسان إن أراد أن يسلك طريق الله ويعمل ما يطلبه منه يسوع باسم أبيه. لذا كان من الطبيعيّ أن يعلن يسوع أنّه «الطريق» (يوحنّا ١٤: ٦)، وأنّه المثال لنحتذي به: «تعلّموا منّي» (متّى ١١: ٢٩)، بعد أن أكّد بالأقوال والأفعال أنّه «يعمل مشيئة» أبيه (يوحنّا ٤: ٣٤؛ ٦: ٣٨). أَلم يطلب منّا أن نبتغيها بدورنا في صلاتنا وحياتنا: «لتكنْ مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض» (متّى ٦: ١٠)؟

ثالثًا، مواقفه. هل علينا تعداد المواقف التي تصدّى فيها يسوع لـمَن يمارس الرياء في الدِّين (لوقا ١٢: ١)، أو الإدانة بحقّ سواه باسم برّه الذاتيّ (يوحنّا ٨: ٧)، أو التسلّط على سواه والاستبداد بهم باسم الدِّين والسلطة (متّى ٢٠: ٢٥؛ ٢٣: ٢-٤)، أو رفضه مسامحة الآخر أو مساعدته (لوقا ٦: ٣٧؛ ١٣: ١٥)؟ هذه وغيرها من المواقف هي نبراس لـمَن يريد أن يعيش إيمانه من دون مواربة أو مساومة أو كسل.

رابعًا، تعليمه. نثر يسوع الكلمة في قلوب التلاميذ والجموع على السواء. كانت التطويبات ركنًا في إيصال بشارته إليهم (متّى ٥: ٣-١١)، بالإضافة إلى حواراته والأمثال وخلاصاته من مجريات الأحداث والعجائب. سلّط الضوء على معرفة الله ومحبّته، على سلطانه بأن يغفر للإنسان خطاياه، وعلى كيفيّة أن يسلك مَن يؤمن به انطلاقًا من هذه المعرفة والمغفرة والمحبّة، فيتمثّلها ويشاركها ويشكر الله عليها.

خامسًا، عجائبه. كلّمنا يسوع أيضًا بقدرته على شفاء النفس والجسد، وأنّه يخلق من العدم مقلتَين لشفاء الأعمى منذ مولده، وأنّه يقيم الموتى، لا بل وأنّه ينقل الإنسان التائب من حياة الخطيئة إلى حياة النعمة

كما في دعوته زكّا وأيضًا لاوي وسواهما. نعم، أعجوبة توبة الخطأة وعودتهم إلى حضن الآب كانت أعظم عجائبه!

سادسًا، صلاته. كم من مرّة انفرد على الجبل ليصلّي؟ أَلم تسطّر لنا الأناجيل كيف أنّ صلاته سبقت ورافقت أحداثَ حياته وتلاميذه وكلّ مَن التمس الشفاء منه؟ أَلم يفرد مساحة وافرة ليعلّمنا أن نصلّي وكيف نثابر فيها وكيف نقيم في مخدعنا من أجلها؟ أَلم يزرع بذبيحته وصلاته الأخيرة على الصليب غفران الآب في التاريخ البشريّ؟

سابعًا، روحه القدّوس. منح يسوعُ نعمةَ الروح القدس لتلاميذه وحملتها الكنيسة في أسرارها المقدّسة وبشارتها وخدمتها. هذا زرع جديد بالكلّيّة به يرشدنا يسوع إلى كلّ الحقّ لأنّه يأخذ مـمّا ليسوع ويخبرنا (يوحنّا ١٦: ١٣-١٤). أَليس الروح القدس هو مَن يعلّمنا الصلاة، ويرشدنا في عمل الوصايا، ويتمّم فينا كلّ برّ، ويقدّس مرافق الحياة، ويبارك عمل خدّام المسيح والمؤمنين به؟

ثامنًا، أعضاء جسده. جسد المسيح هو حقله الممتد إلى أقاصي الأرض وإلى الناس جميعًا وفيه نعاين ثمار مَن تلقّفوا الزرع الواحد في الجوهر والمتعدّد الأوجه. مدّنا الإنجيل بشهادة الزرع الذي زرعه الابن الوحيد وكيف نما في قلوب تلاميذه وأترابه، عبر نار التوبة التي عملت في مَن شاء أن يتبع يسوع. ومن بعدهم تأتي كوكبة الآباء والأمّهات القدّيسين الذين عاشوا كلمة الله وجسّدوها في حياتهم أفعالًا ونهجًا وتربية وأعمالًا. فصاروا منارة سواهم من أبناء جيلهم والأجيال اللاحقة أيضًا.

فكيف حالنا نحن إذًا من عطيّة الله هذه زرعه الإلهيّ؟ هلّا هيّأنا قلبنا لاستقبال صلاح الله فيتوب إليه وتصحّ فيه، بداعي مثابرته على هذا التحوّل، كلمة الربّ: «… والذي في الأرض الجيّدة هو الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيّد صالح ويثمرون بالصبر» (لوقا ٥: ١٥)؟

+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: تيطس ٣: ٨-١٥

يا ولدي تيطُسُ، صادقةٌ هي الكلمةُ وإيّاها أريدُ أن تُقرِّرَ حتى يَهتمَّ الذين آمنوا بالله في القيام بالأعمال الحسنة. فهذه هي الأعمالُ الحسنة والنافعة. أمّا المباحثاتُ الهَذيانيَّةُ والأنسابُ والخصوماتُ والمماحكاتُ الناموسيَّة فاجتنبها، فإنّها غيرُ نافعةٍ وباطلةٌ. ورجلُ البدعةِ، بعد الإنذار مرَّةً وأخرى، أَعرِضْ عنه، عالـمًا أنّ من هو كذلك قد اعتسف وهو في الخطيئة يقضي بنفسه على نفسه. ومتى أَرسلتُ إليك أرتيماسَ أو تيخيكوسَ فبادرْ أن تأتيَني إلى نيكوبولس لأنّي قد عزمتُ أن أُشتّي هناك. أمّا زيناسُ مُعلّم الناموس وأَبُلّوس فاجتهد في تشييعهما متأهّبَيْن لئلّا يُعوزهما شيء. وليتعلّم ذوونا أن يقوموا بالأعمال الصالحة للحاجات الضروريّة حتّى لا يكونوا غيرَ مثمرين. يُسلِّمُ عليك جميعُ الذين معي. سَلِّمْ على الذين يُحبّوننا في الإيمان. النعمةُ معكم أجمعين. آمين.

 

الإنجيل: لوقا ٨: ٥-١٦

قال الربّ هذا المثل: خرج الزارع ليزرع زرعَهُ، وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فوُطِئَ وأكلته طيور السماء. والبعض سقط على الصخر فلمّا نبت يبس لأنّه لم تكن له رطوبة. وبعضٌ سقط بين الشوك فنبت الشوك معه فخنقه. وبعضٌ سقط في الأرض الصالحة فلمّا نبت أثمر مئَةَ ضِعفٍ. فسأله تلاميذه: ما عسى أن يكون هذا المثل؟ فقال: لكم قد أُعطي أن تعرفوا أسرارَ ملكوت الله. وأمّا الباقون فبأمثال كيلا ينظروا وهم ناظرون ولا يفهموا وهم سامعون. وهذا هو المثل: الزرع هو كلمةُ الله، والذين على الطريق هم الذين يسمعون ثمّ يأتي إبليس ويَنْزِعُ الكلمةَ من قلوبهم لئلّا يؤمنوا فيخلُصوا. والذين على الصخر هم الذين يسمعون الكلمةَ ويقبلونها بفرح ولكن ليس لهم أصلٌ، وإنّما يؤمنون إلى حين وفي وقت التجربة يرتدُّون. والذي سقط في الشوك هم الذين يسمعون ثمّ يذهبون فيختنقون بهموم هذه الحياةِ وغناها وملذّاتها، فلا يأتون بثمر. وأمّا الذي سقط في الأرض الجيّدة فهُم الذين يسمعون الكلمةَ فيحفظونها في قلب جيّد صالح ويُثمرون بالصبر. ولـمّا قال هذا، نادى من له أُذنان للسمع فليسمع.

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

الزارع الإلهيّ والحقل البشريّ