...

كلمة الراعي رسول الغربة المزدوجة: غربة الإنسان وغربة يسوع

في شفاء الرجل من كورة الجرجسيّين، الذي سكنته شياطين كثيرة، تنكشف لنا الحال التي وصلت إليها خليقتا الله، الشيطان والإنسان على حدّ سواء، وتأثير الأوّل على الثاني، وحياة الثاني من دون تأثير الأوّل وتسلّطه عليه.

خرج الرجل الممسوس من الشركة الطبيعيّة مع أترابه، فبات غصبًا عنه معزولًا عنهم. اتّخذ مكان إقامة غريبًا عن مظاهر الحياة، حيث سكن القبور. حتّى شكله ما كان يدعو إلى الاطمئنان، إذ كان عريانًا. هذا كلّه أتى بداعي غربته عن الله، وليس من أجله. فالغربة التي أقام فيها، والفقر الذي كان يعيشه، ما كانا بدافع الاستعداد والتهيئة للقاء الله واحتضان للمخلوق على صورته، بل تأكيدًا على غياب الألفة مع الله والتآخي مع أترابه. نعم، كان مسلكه مصدر خطر على الآخرين فكان يُربط بسلاسل لدرء شرّه عنهم.

على مقلب آخر من الحادثة، نرى يسوع في تلك الكورة يُظهر لنا وجهَين مميِّزَين للإنسان الجديد، تواضعه ومحبّته، وما يعني ذلك من سلطة وقدرة وفعل وحياة جديدة. هذا برز في تعاطيه مع الإنسان الممسوس ومع الشياطين التي كانت تسكنه.

أذن يسوع للشياطين بأن تغادر الممسوس إلى قطيع الخنازير، فقد آثرت ألّا تذهب إلى الهاوية منذ تلك الساعة، بينما لمست في حضور يسوع مصدر عذاب لها. بالفعل، انفصل الشيطان عن الله، ففقد التواضع والمحبّة. ما عاد يلتمس الله، وما عادت حضرة الله مصدر فرح، ولا اللقاء به مصدر حياة. باتت محبّة الله له مصدر عذاب أليم. في سياق تدبيره الإلهيّ، هكذا تصرّف يسوع في هذه الحادثة مع خليقته، الشيطان.

من جهة أخرى، يرفع تواضع يسوع ومحبّته الإنسانَ الممسوس إلى مستوى الوجود الطبيعيّ لكلّ إنسان، حيث يوضح النصّ أنّه بات مرتديًا لباسًا، وصار صحيح العقل، وأصبح بإمكانه أن يجالس أترابه. هذا كان من وجهة نظر اجتماعيّة وإنسانيّة. وفي هذا دخولٌ في معركة التآخي الطويلة والمحيية مع الإنسان أخيه. ولكنّ النصّ يشي بأمر آخر، وهو أنّ ما جرى لهذا الإنسان كان له انعكاس على الكيان. والمقصود بالطبع خبرته الجديدة مع يسوع نفسه، وطبيعة الحياة الجديدة التي أخذها منه بعد أن تحرّر من فعل الشياطين وتسلّطها عليه.

ربّ قائلٍ إنّها أعجوبة باهرة، فنتوقّف عند هذه الصفة، أي صفة ما هو باهر، ولا ننفذ إلى ما تشير إليه وتكشفه بآن. من السهل أن نبقى على مستوى قدرة الله وما يمكن لهذه القدرة أن تفعله لصالحنا ومن أجلنا. هكذا نبقى أسرى أنفسنا في التعاطي مع ذواتنا. ولكنّ الرجل الصحيح العقل انطلق إلى مكان أبعد من ذاته عندما طلب إلى يسوع أن يصحبه معه وأن يكون معه. بالفعل، قادنا إلى ما هو أبعد من ذواتنا، إلى ما هو أبعد من الاحتفال بقدرة أو انتصار أو حرّيّة أو فرصة جديدة، إلى أبعد من نصيرٍ أو بطلٍ أو مقتدر. قادنا إلى حيث يسوع موجود، إلى حيث يرغب يسوع في أن يكون موجودًا، إلى حيث يسوع ما يزال غريبًا ومنسيًّا ومتروكًا. نعم، قادنا إلى تلك الغربة التي يقيم فيها يسوع طالما اخترنا سكنى القبور، والعريّ، والعنف، والعزلة، وأشكال الموت في الحياة، والانقياد إلى الشيطان وأعماله وغاياته.

هكذا سريعًا ما اختفت الأعجوبة من مجال انتباهنا لتتركّز على رسول يسوع الجديد وما لديه ليخبرنا به من عظائم الله التي صنعها به. فهذا أرسله يسوع إلى خاصّته وبيته ليكون رسوله إليهم، رسوله في بيئة حاضنة للخنازير والشياطين، أي لما يمثّل الوجهة المعاكسة لأمر الله والصلة به والتعاطي معه. إنّه إرسال إلى المكان، لا بل إلى الجماعة وإلى كلّ إنسان غريب عن الله، ليصيروا أقرباء وأحرارًا بفعل هذه القربى من الله. ما كان هذا ممكنًا لو أنّ هذا الإنسان لم يلمس في كيانه تواضع يسوع ومحبّته حتّى تكون لديه البوصلة الصحيحة والحقيقيّة في تعاطيه مع أترابه، الذين عادوه لـمّا كان ممسوسًا بالأمس وبات عليه أن يكون خادمهم اليوم وكلّ يوم.

أَوَليس في هذا الاستعداد تكمن الأعجوبة الحقيقيّة في هذه الحادثة: أن يعود الإنسان الجديد الذي يرسله المسيح إلى مَن جعلوا أنفسهم أعداء ليصيروا إخوة له وأصدقاء لله؟ هلّا رجعنا إذًا إلى بيوتنا على هذا الأساس، بحال كان هذا الاستعداد موجودًا فينا، وحدّثنا بما صنع الله بنا؟ هلّا طلبنا إلى الله أن يقودنا إلى أن يتكوّن فينا هذا الاستعداد بحال خلا منّا؟ في كلتا الحالتَين، فلنشكر الله الذي أعطانا هذه الفرصة، ولنشكر الذين قادونا من العداوة لله ولأخينا إلى الشركة الأخويّة بالمسيح.

+ سلوان متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

الرسالة: غلاطية 11:1-19

يا إخوة، أُعلمكم أنّ الإنجيل الذي بَشّرتُ به ليس بحسب الإنسان لأنّي لم أَتسلّمه وأَتعلّمه من إنسان بل بإعلان يسوع المسيح. فإنكم قد سمعتم بسيرتي قديما في ملّة اليهود أنّي كنتُ أَضطهدُ كنيسة الله بإفراط وأُدمّرها، وأَزيد تقدّما في ملّة اليهود على كثيرين من أَترابي في جنسي بكوني أَوفر منهم غيرةً على تقليدات آبائي. فلما ارتضى الله الذي أَفرزني من جوف أُمّي ودعاني بنعمته أن يُعلن ابنه فيّ لأُبشّر به بين الأُمم، لساعتي لم أُصغِ الى لحم ودم، ولا صعدتُ الى اورشليم الى الرسل الذين قبلي، بل انطلقتُ الى ديار العرب، وبعد ذلك رجعتُ الى دمشق. ثم إني بعد ثلاث سنين صعدتُ الى اورشليم لأَزور بطرس فأقمتُ عنده خمسة عشر يوما، ولم أرَ غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الرب.

الانجيل: لوقا ٢٧:٨-٣٩

في ذلك الزمان أتى يسوع إلى كورة الجرجسيّين فاستقبله رجل من المدينة به شياطين منذ زمان طويل ولم يكن يلبس ثوبًا ولا يأوي إلى بيت بل إلى القبور. فلمّا رأى يسوعَ صاح وخرّ له بصوت عظيم: ما لي ولك يا يسوع ابن الله العلي، أطلب إليك ألّا تعذّبني. فإنّه أمرَ الروح النجس بأن يخرج من الإنسان لأنّه كان قد اختطفه منذ زمان طويل وكان يُربَط بسلاسل ويُحبَس بقيود فيقطع الربُط ويُساق من الشيطان إلى البراري فسأله يسوع قائلًا: ما اسمك؟ فقال: لجيون، لأنّ شياطين كثيرين كانوا قد دخلوا فيه. وطلبوا إليه ألّا يأمرهم بالذهاب إلى الهاوية. وكان هناك قطيع خنازير كثيرة ترعى في الجبل. فطلبوا إليه أن يأذن لهم بالدخول إليها فأذن لهم. فخرج الشياطين من الإنسان ودخلوا في الخنازير. فوثب القطيع عن الجرف إلى البحيرة فاختنق. فلمّا رأى الرعاة ما حدث هربوا فأخبروا في المدينة وفي الحقول، فخرجوا ليروا ما حدث وأتوا إلى يسوع، فوجدوا الإنسان الذي خرجت منه الشياطين عند قدمي يسوع لابسًا صحيح العقل فخافوا. وأخبرهم الناظرون أيضًا كيف أُبرئ المجنون. فسأله جميع جمهور كورة الجرجسيّين أن ينصرف عنهم لأنّه اعتراهم خوف عظيم. فدخل السفينة ورجع. فسأله الرجل الذي خرجت منه الشياطين أن يكون معه، فصرفه يسوع قائلًا: ارجع إلى بيتك وحدّثْ بما صنع الله إليك. فذهب وهو ينادي في المدينة كلّها بما صنع إليه يسوع.

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الراعي

رسول الغربة المزدوجة: غربة الإنسان وغربة يسوع