...

خبرة لا بُدَّ منها

لي صديقٌ في لحظةٍ، في طرفةِ عين، كادَ أن يرتحلَ بنوبةٍ قلبيّةٍ فاجأته. قال لي إنّه يومًا لم يكن يتوقّع ما حصل، باعتقاده أنّه لا يُقهر ولا يُغلب وأنّ كأس الموت بعيدٌ عنه، فكان يؤجِّل توبته مُتناسيًا الموت، إلّا في الذاكرة الهشّة الساقطة، وضمن العبارات الصادرة عن اللسان: «إنّنا كلّنا سنموت» «وأنّ الموت لا يرحم أحد» و«أنَّ الإنسان سخيفٌ هو وضعيفٌ» «وليس لأحدٍ خيمةٌ فوق رأسه» وغيرها الكثير. فكان يرتدعُ إلى حين ثمّ يجترُّ حياته كالسابق ناسيًا أو مُتناسيًا.

لكنّ كَفَّ المرض والموت جعله يحسبُ غير حسابٍ، وجعله يَعي حقيقة نفسه، التي كان يرغب في أن تكون على غير حقيقتها. وجد أنّ الإنسان لن يجد الراحة إلّا عبر نُضج إيمانهِ وبلورة وَعْيهِ. فالعيونُ يجب أن تُفتحَ وتُجلى عنها غشاوة الوجود المُزيَّف المزعوم. عرفَ إلى حَدٍ أنّ الفرح لا يأتي من كينونةٍ قائمة على الكذب المتواصل على الذات، وأنّ الامتلاك بكلّ معانيه، ليس هو الحلّ للفراغ المتسلّط على الطبيعة. أيْقَنَ أنّ الطريق المَسلوكةَ منه قبلًا، هي طريق الهاوية، طريق الموت المُغلَّف بأحلام الوجود وعدم الاكتفاء.

صاحبُنا بات يرغب في أن يحتقرَ كلَّ الأمور البشريّة، وأن لا يُشغفَ بأيٍّ من الخيراتِ الحاضرة، لعلمه أنّها أوهى من الظلال والأحلام. عاود قراءة الآباء الذين أهملهم بحجَّة الازدياد من ثقافات الدنيا، والمجتمعات المعاصرة الليبراليّة، المرضيّة المَيِّتة. آمن بالذكاء وقوّة الخطاب المُقنِع. انغشّ بأنّ النجاح والتفوّق قد يزيدانه رصانةً وإشراقًا وسِعَةً، لا بل قوّةً وانتشارًا. وكلّ هذا طبعًا ضمن دائرة وَهْم الوجود المُزيّف الذي قد يَتَبَخَّر في أيّة لحظة. نسي بالعمق أن يكون مؤمنًا هادئًا أمام أفكاره المقلقة الهائجة، صابرًا، ضاحكًا عليها كالأمواج التي تتكسّر على الصخور قبل أن تتحوّل إلى زبد.

قال لي غير مرّة، إنّه يعمل على إنعاش حُبّه للهدوء من صخب التصفيق الجماهيريّ، والبيانات الرقميّة التي كان يتَتَبَّعها لتقويم حجمه وسعة انتشاره ووجوده. يفتكر اليوم أن تكون ردود فعله كالجثّة إزاء وقائع هذه الحياةِ الخدّاعةِ، وإزاء كلّ ما يُعيقُ تقدّمه في خلاص نفسه. كرّر أمامي قول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ «أنّ شؤون هذه الحياة الحاضرة سريعة الزوال. وإنّه لو عرف الإنسان السرعة التي سينساه فيها الناس بعد موته لما عمل ما يُرضي الناس بل ما يُرضي الله».

اتّخذ المرض فرصةً للتعزية، فالكثير مِمَّن جُرحوا في الحرب ربطوا جراحاتهم وتابعوا القتال فنجوا، أمّا الذين لم يُتابعوا المعركة اعتُقلوا للموت. يحاول صديقنا بصبرٍ، أن يتعاونَ مع الجرحى الآخرين، ليتابعوا المعركة الروحيّة معًا ضدّ العدوّ غير المنظور، عاقدًا وإيّاهم الحُلفَ مع المسيح المجروح ليربحوا النجاة.

عَلَّمَ القديس بولس صديقَنا، أنّ الناس «يموتون خوفًا من الموتِ». يتكالبون لوجود أرضيّ، هَشٍّ، تعويضًا عن نقص في وجودهم السماويّ. الكلّ غير موجود في عينَيِ ذاته، لذا يحارب الوجود، مُصوّبًا خارج الدائرة. الناس بنظره، يُعانون من دون معنى، بينما المعاناة في الإبحار مع الربّ لها النَّفعُ المُطلق وكلّ المَعنى. فمن يهرب جاهدًا إلى الله يدخل إلى جوّ النعمة المجّانيّة، القهّارة للموت. «فمن المهمّ أن نَعرف لمن نموت ولمن نحيا، لأنّ ثَمّةَ موتًا يحيي وحياةً تُميت» (القدّيس لاون الكبير).

فكما التاجر يبيع ويشتري ليربح ويكسب، كذلك المؤمن الصبور. فاللبيب بعد خبرة المرض والموت، يجب أن يعمل ويتاجر نهارًا وليلًا، ليقتنيَ النعمة المُفرِّجة عن القلوب والمفرّحة في آنٍ. آمين.

 

Raiati Archives

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خبرة لا بُدَّ منها