...

وتبقى الكنيسة…

 

 

   لا نستطيع شيئًا ضدّ الحقّ بل لأجل الحقّ (2 كورنثوس 13: 8). الكنيسة مُستهدَفَة أبدًا!. ونعلم مَن يتربّص بها شرًّا: المضادّ!. الآتون بثياب الحملان وهم ذئاب خاطفة!. هؤلاء من روح الخبيث يأتون!. شيمتهم الخداع!. منّا خرجوا، لكنّهم لم يكونوا منّا، لأنّهم لو كانوا منّا لبقوا معنا… (1 يوحنّا 2: 19) نتبيَّنهم أو لا نتبيَّنهم، الله يعرفهم، لأنّ مقاصد قلوبهم مكشوفة لديه!. وربّك ضامنُ كنيستِه!. طوبى لمَن يسلك بنقاوة القلب!. الرّبّ يحفظ الأطفال!.

   قال لي راعي هذه الأبرشيّة، مرّة، قولًا، من معاناة: لا خوف على الكنيسة!. كلّهم سيموتون، ويقصد رعاتها، وتبقى الكنيسة!. السّالكون بمخافة الله يفهمون، أمّا اللّامبالون والفضوليّون فلا حاجة لأن يفهموا!.

   المهمّ أن يتمسّك السّالكون في الحقّ بمخافة الله!. خوف الله يردّ سهام العدوّ ويحفظ المؤمنين آنية لله!. هأنذا معكم كلّ الأيّام إلى منتهى الدهر!. وما يأتي خوف الله إلّا من اتّضاع وفقر ولاإدانة (الأب أورانيوس، البستان)!. هذا يعادل القول إنّ ما يصنعنا بالرّوح هو وعيُنا أنّنا تراب ورماد، وأنّه لا شيء لنا ونحن، بالنّعمة، نملك كلّ شيء، وأنّه ليس أحد خيرًا من سواه ليدينه. خطيئتي امامي في كلّ حين. ندين الخطيئة ولا ندين الخاطئ. وما هذا بميسور إلّا إذا عرفنا ذواتنا حقّ المعرفة. ندين واحدًا فقط: الكامن وراء كلّ خطيئة!. مَن يوحي بها ويشجّع عليها!. في ما عدا ذلك، الكلّ ضحيّة!.

   الحيّة تتحرّك من الدّاخل وفي الخارج. المدى هو السّلطة، أوّلًا!. لِمَ هو ولستُ أنا؟!. حيث لا حقّ يسود، تسود العداوة بلا سبب… أو لسبب مختلَق!. وكلّ اختلاق من حبٍّ للسّلطة يأتي!. والسّلطةُ مؤسّسة وسياسة!. المؤسّسة قوّة والسّياسة حيلة!. حيث انتفت قوّة الحبّ سادت قوّة القهر، وحيث غابت سياسة الخدمة عمّ لهوُ السّياسة بالله والمصير!. لكنَّ اللّهو باطل وعبث!.

   ثمّة مَن يستهدف، من هذا المنطلق، القطيع الصّغير. لكن، لا خوف عليكم لأنّكم أخصّائي. فإنّ مَن يمسّكم يمسّ حَدَقَةَ عينه (زكريّا 2: 8)!.

   هذا لا يبرِّر الكسل. ترجمةُ خوف الله روحُ البذل والتّضحية. الخراف المرتحِلة إلى وجه ربّها صَحبُها الرّعاةُ من الأمام ومن الخلف. من الأمام هداةٌ ومن الخلف حيطة حتّى لا يضيع منها أحد!. فقير مع الفقراء وجريح مع الجرحى ودامع مع الباكين!.

   شعب موجوع، ما مبتغاه؟ يا ابن آدم، تنبّأعلى رعاة إسرائيل، تنبّأ وقل لهم: ألا يرعى الرّعاة الغنم؟ المريض لم تقوّوه والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تجبروه والمطرود لم تستردّوه والضّالّ لم تطلبوه، بل بشدّة وبعنف تسلّطتم عليهم… فتشتّتت غنمي (حزقيال 34)!. الآن وقت الصّيام حتّى يأكل الجوعى، الآن زمن الدّمع حتّى تتبلّل القلوب اليابسة!. لا قضايا كبرى فوق قضيّة المسيح الموجوع في الشُّرَّد والهُجَّر والأُلَّم!. لتخرب الدّيار، لا بأس!. المهمّ أن تُبنى هياكل النّفوس!. الرّاعي الّذي ليست ثيابه مِزْقًا، لا طاقة له على رعاية العراة!. الرّاعي الّذي لا يبيع نفسه للفقر كيف يحسّ بفقر الفقراء؟!.

   وحدة الكنيسة لا خطر يداهمها لأنّ مسيحها حافظها!. الخطر المداهم هو على مَن يعبثون ويُضلّلون لأنّهم يقطعون ذواتهم عن الواحد الأحد، وعن شراكة مَن بذل الباذلُ نفسَه عنهم!.

   أخطر المخاطر على الرّعاة أن يلهوا عن الخراف بأنفسهم وأفكارهم وأهوائهم!. ويل لهم!. شعبي مُحبَط، متروك، مسيَّب، مسلَّم للحزن، ثمنًا للقضايا الكبرى السّمجة الزّيف لرعاته!. ماذا يطلب الجائع أكثر من كِسرة خبز، والمريض أكثر من حبّة دواء والمتروك أكثر من سؤال حنان، والمهجَّر أكثر من ضمّة رفق، والجاهل أكثر من ألطاف قلب؟ بعد ذلك تأتي الكلمة في محلِّها!. أريد رحمة لا ذبيحة!. إذا لم يكن همّ الشُرَّد ما يجمعنا اليوم فلا شيء يجمعنا بعد!. غدًا نجدنا رعاة بلا شعب!. هذا ندنو منه بسرعة!. يكونون قد ارتحلوا لأنّ أرض القلوب تصحّرت ولا بُقول للجوع والعطش!. مَن يسأل؟!. مَن يبالي؟!. يأتون ويذهبون ولا نعرف أنّهم أتوا وذهبوا!. تغرّبوا ونحسبهم أبناء، وذواتنا آباء لهم!. أيّ كنيسة نلتمس والقِبلة بابل؟!. كلّ بات لنفسه!. أنت في وادٍ، يا صاح، والنّاس في واد آخر!.

   إذا كان الصّراع، في زمن الشّتات، دأبنا، فما المآل؟ ماذا سيجمعنا بعد؟ علامَ نجتمع؟ أعمى عيونهم حتّى لا يبصروا بعيونهم ولا يسمعوا بآذانهم ولا يشعروا بقلوبهم ولا يرجعوا فأشفيهم!. لأنّ قلب هذا الشّعب قد غلظ!. إلى متى أيّها السّيّد؟!. إلى أن يُبعِد الرّبُّ الإنسانَ ويَكثُر الخراب في وسط الأرض!. من السّواد، في عرف ربّك، يطلع نور!.

   حسٌّ يموت وألم يشتدّ حتّى يُسترَدَّ الحسُّ!. ما عُدتَ تعرف أفي كنيسة أنت أم في حفلة تنكّريّة!. مَن يُسيِّب فليزدد تسيُّبًا، ومَن يشرد فليُمعِن شرودًا، ومَن يضلّ فلا يبالِ بعد، لأنّ أيّامًا تأتي يُعاق فيها الرّعاة ويزدادون، ولا يبقى للرّعيّة غير راع واحد!. هو يفتقدها، يأخذها على عاتقه، يبكي مع الباكين ويفرح مع الفرحين!. هذا وحده يعزّيها!.

   في منتهى الدّهر، يحلّ الجفاف ولا يعود ثمّة رعاة لأنّ كلًّا يرعى نفسه وأوهامَ قلبه وشهواتِ نفسه!. يومذاك تُفرع البطمة من جديد لأنّ ربّ الكلّ لا يترك صغاره في التّيهان طويلًا بل يلملمهم ويضمّهم إليه!. يومذاك تفرح برّيّة النّاس والأرض الّتي أيبسوها ويبتهج القفر الّذي أحدثوه ويزهر كالنّرجس. يزهر إزهارًا ويبتهج ابتهاجًا ويترنّم!. يومذاك تكتمل الكنيسة لأنّ لحم النّاس يصير إيّاه لحم السّيّد ودمه، وكلّ الظّلال تضمحلّ!. الرّجاء بغير الله يبطل تمامًا ويحقّ القول: إن لم يبنِ الرّبّ البيت فباطلًا يتعب البنّاؤون!. إن لم يحرس الرّبّ الكنيسة فباطلًا يتعب الحارسون، لأنّ فم الرّبّ تكلّم!.

   … وتبقى الكنيسة إلى الدّهر قلوبًا عامرة بالفرح، معزّاة بالنّعمة، مشدّدة بمحبّة الله، إلى أبد الآبدين!. على كلمتك، سيّدي، أُلقي شبكة رجائي!. طوباكم أيّها المساكين في ذلك اليوم!. أيّها الرّبّ يسوع، تعال!.

 

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان

17كانون الثاني 2016