...

نِعْمَ العطيّة!

«بخورًا نقدّم لك، أيّها المسيح إلهنا، رائحة طيب ذكيّ روحيّ، فاقبله على مذبحك السماويّ، وأَرسِلْ لنا عوضًا منه نعمة روحك الكلّيّ قدسه». هذه الصلاة (الإفشين)، التي يتلوها الكهنة قبل تبريك البخور، تكشف السببين اللذين حكما استعمال البخور كنسيًّا، أي: تكريم الله ونشر الرائحة الذكيّة. وهذان سببان لم يفوتا الإنسان القديم الذي قدّم البخور تكريمًا إلى الملوك وآلهته الوثنيّة.

هذا لا يعني أنّ المسيحيّة جاءت بممارساتها من أرحام عقيمة، أي لا خلاص فيها، بل أنّها نزلت إلى الإنسان، في ما رأته يخدمها في عملها الخلاصيّ، لترفعه إلى مستوى دعوتها. المسيحيّة، في كلّ ما فعلته، كان طلبها خلاص الإنسان كلّه. هذا يبدو ظاهرًا في المعاني الجديدة التي أَسبغتها على ممارساتها.

قلنا نشر الرائحة الذكيّة. وهذا لا ينفصل عن شأن العبادة. فإن كانت دعوة الإنسان مسيحيًّا أن يشارك في العبادة في حواسّه كلّها، فالبخور، في أوان العبادة، يعطيه أن يدرك رائحته في أنفه.

ثمّ قلنا تكريم الله. وهذا طلبًا ثَبَّتَته الكتب المقدّسة والمجامع الكنسيّة. لنسطرد قليلاً.

مظهر التبخير، في الكنيسة، يطرح سؤالاً عن التزامنا تكريم الله وحده. فما يبدو ظاهرًا أنّنا، في العبادة، لا نكتفي بتبخير الكنيسة بما فيها، أي مذبحها ومائدتها وإيقوناتها…، بل نبخّر مَن فيها أيضًا، أي الناس الذين يَؤُمّونها في أوان العبادة. وهذا، بكلام دقيق، من مقتضيات اعتقادنا بتكريم الله وحده. فالإنسان، أسقفًا أو كاهنًا أو عامّيًّا، هو «صورة الله». هذا، تكريمًا لله في الإنسان، من الرائع أن نذكُره في هذا السياق وفي غير سياق. أنت، أنا، كلّنا، في الكنيسة، تطلب العبادة أن نرتقي، في غير حال، في العبادة وخارجها، إلى أنّ الله كرّمنا بإيجادنا على صورته، لنسعى، بنعمته المخلِّصة، إلى أن نكون على مثاله.

هذا يفترض أن يستقبله المؤمنون بتواضعٍ يُعزّز معانيه. من علامات هذا التواضع أنّنا، في أوان التبخير، عندما يصل إلينا الخادم (كاهنًا أو شمّاسًا)، نصلّب يدنا على وجهنا فيما نطلب إلى الربّ، في سرّ قلبنا، أن يرحمنا. نحن لا نستحقّ هذه المعاملة. هذا ليس رفضًا لاقتبال الخير، بل، في روحانيّة كنيستنا، هذا وعي ملزم لا نكون مستقيمين إنْ تجاوزناه. إذًا، هناك حركتان، تبدوان متناقضتين، تفترض إحداهما الأخرى: حركة تكريم الكنيسة لنا بالتبخير، وحركة الوعي أنّنا بشرٌ خطأة يُعوزنا أن يرحمنا الله.

ثمّ عمَلُ التبخير يفتح صفحات تاريخنا على ذِكْر أنّ المسيحيّين الأوائل بذلوا دماءهم ثمن إخلاصهم لله، أي رفضوا تقديم البخور للوثن أو للأباطرة. التبخير، الذي يغسلنا الكهنة به في أوان العبادة، تعبق برائحته العطرة «صلواتُ القدّيسين» الذين استُشهدوا حبًّا بالمسيح (رؤيا يوحنّا 5: 8). صلواتهم أو أمانتهم. المسيحيّة كلُّها إخلاصٌ لله. فلنفهم هذا! الذين استُشهدوا حبًّا ثبّتوا في كنيستنا أنّ الالتزام إخلاص. ما من شيء، في الكون، أغلى من المسيح وحبّه. هذه ثروتنا الباقية وحياتنا الباقية.

هذا، أي ذكر القدّيسين الشهداء، لا يتعلّق، في تراثنا، بعمل التبخير وحده، بل بكلّ كلمة وحركة تُكوّنان خدمنا العباديّة. كلّنا نعلم أنّ البخور، عندما يحترق، يتصاعد إلى فوق. ربّما بعضنا قرأ صفحاتٍ تفيد أنّنا، في حرقنا البخور، نرجو أن تتصاعد صلواتنا، مثله، إلى الله. ولكنّ ذكر الشهداء القدّيسين يريدنا أن نضيف إلى معنى هذا التصاعد أن يعلو اقتناعُنا بأنّ حبّ المسيح أغلى من حياتنا. هذه شهادتنا.

مثل أيّ عمل نافع آخر، الكنيسةُ ترغب في أن ننقل هذا التبخير إلى منازلنا. إن كنّا نعبد الله أينما حللنا أو نزلنا، ففي منازلنا يُنتظر أن ندرك عبادتنا في حواسّنا كلّها. وفي منازلنا إيقونات وأناس نشاركهم في حياة واحدة. وهذه يجب أن تتبخّر وهؤلاء أيضًا. كلّنا نعلم أنّ بعضنا يعتقدون أنّنا نستعمل البخور، لتطرد رائحته نتانة الشرّ. وهذا اعتقاد لا يعبّر بدقّةٍ عمّا نؤمن به. نحن نطرد الشرّ بطاعة يسوع، أي بمحبّة الكلمة التي يكره الأشرار أن يرَوها متجسّدةً في الناس. أمّا البخور، فلنضفي على حياتنا لونًا عباديًّا.

ما علينا أن نتعلّمه، في العبادة، أنّ كلّ ما نُقدّمه لله من عندنا يرُدّه لنا من عنده. هذا ما ترجوه كنيستنا من تقديم البخور أن يرسل لنا الربّ عوضًا منه «نعمة الروح القدس». ونِعْمَ العطيّة!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نِعْمَ العطيّة!