...

كلمة الله

من مقتضيات الالتزام المسيحيّ أن يرتبط الإنسان بكلمة الله ارتباطًا يوميًّا.

قلنا، هنا، مرارًا، إنّ الإنسان المسيحيّ يحيا وفق ما يجده في كنيسته (أو ما تمارسه كنيسته). إن كانت الكنيسة تقرأ كلمة الله في عبادتها، فهذا يعني أنّ من شأن المؤمن أن يتّكئ على الكلمة في بيته. هذه قاعدة للحياة، بل قاعدة الحياة. إنّها أساسٌ مثلَ الطعام والشراب. إن كنّا نأكل ونشرب لنتغذّى في كلّ يوم، فينبغي لنا أن نغذّي نفوسنا في قراءة كلمة الله، في كلّ يوم. لا يمكن أن يحيا الإنسان بعيدًا من الكلمة.

أعرف أنّ كثيرين، ممّن يقرأون هذه السطور، سيعتقدون أنّها تخصّ المكرَّسين في الجماعة من أساقفة وكهنة وشمامسة ورهبان وراهبات. هذا خطأ تسرّب إلينا من هذا الفصل الغريب، (الذي لم نخترعه نحن)، بين الإكليروس والعلمانيّين. لا شكّ في أنّ كلمة الله تخصّ المكرَّسين الذين ذكرتُهم. لكنّها، في الآن عينه، تخصّنا جميعًا نحن الذين نسبَنا اللهُ إليه في معموديّتنا. إنّها كلمته إلينا أيضًا بالقوّة عينها التي هي كلمته إلى الإكليروس. فنحن ليس عندنا طبقة معلِّمين وطبقة متعلِّمين. كلُّنا اللهُ معلّمُنا (يوحنّا ٦: ٤٥).

هذا يفترض أن يكون لكلّ واحد منّا كتابه المقدّس الخاصّ، أي نسخة منه يقرأ فيها وحدها في كلّ يوم. فالكتاب معرفته. وإن اعتمدنا نسخةً لقراءة الكلمة، لا نعتادها فقط أو نحفظ الكلمات كما هي فيه فحسب، بل، أيضًا، نقدر على حفظ الأسفار والإصحاحات ومواضع الآيات بما يساعدنا على أن نرجع إلى ما يعوزنا منها عندما نريد. هذه من ضرورات العلاقة الشخصيّة بالكلمة (التي نحتاج إليها في أوقات تعنينا)، وتاليًا من ضرورات الشهادة لله أو الدفاع عن الحقّ، إن هاجم الحقَّ أمامنا أشخاصٌ مغرضون.

ثمّ للكلمة معانيها. هذه الوحدة، التي أظهرناها بين الإكليروس والعلمانيّين، تختصّ بفهم تعاليمنا أيضًا. كلّ منّا مسؤول عن وضوح الكلمة في عالمٍ لا يريحه مثل أن يغلق عينيه على غموض الجهل. هذا يفترض أن نمتلك كتابًا مقدّسًا بتعريبات متنوّعة. هذه التعريبات نعود إليها إن صعب علينا أمر في كتابنا الذي نقرأ فيه، أو إن أردنا أن نستزيد في كشف معاني فصل من فصوله. الذين لا يعرفون أن يقرأوا الكتاب المقدّس باللغات التي وُضع فيها (اليونانيّة مثلاً)، يساعدهم على الفهم ما نقترحه هنا. هذا يجب أن نضيف إليه أنّ المؤمن من شؤونه أن يلجأ إلى مفسّري الكلمة الذين وضعوا دراساتٍ رصينةً في كنيستنا وغيرها. المعرفة ثمينة. وهذه ضرورة من ضرورات استقامة الحياة واستقامة الشهادة.

أعرف أنّ ما ذكرته، في سطوري الآن، لم يدخله الأكثرون في نمط حياتهم. الناس تعوّدوا أن تأتيهم المعرفة جاهزة. نحن، في كلّ شيء تقريبًا، غدونا نحبّ الأشياء الجاهزة. هذا يريحنا! ولكنّنا مسؤولون. المسيحيّة لا تحتمل أن يكون أعضاؤها هواةً أو كسالى. الربّ يحبّ الكلمات. ألم يعلّم نبيَّهُ أن ينادي: «خذوا معكم كلامًا» (هوشع ١٤: ٢)؟ صحيح أنّه أراد كلام توبة. ولكن، هل من كلام يحبّه الربّ خير من الكلام الذي سلّمنا إيّاه وديعةً؟ هل من موقف يدلّ على التوبة مثل أن نترك كلمات الكون، ونصالح كلمته؟

هذا الكلام على التوبة يذكّرني بقصّة من الأدب النسكيّ أودّ أن أرويها هنا. «مرّةً، ذهب راهب إلى رئيس ديره، ليعترف بخطأ يلحّ عليه. سمعه رئيسه بانتباه صامت. ثمّ طلب منه أن يذهب إلى صومعته، ويقرأ العهد الجديد كلّه من الدفّة إلى الدفّة. ذهب الراهب. قرأه، وعاد يقول إنّ ما اعترف به من ذنب ما زال هو هو. طلب الرئيس أن يعود إلى الصومعة، ويقرأ العهد الجديد من جديد. قرأه، وعاد مثلما ذهب. ردّه إلى القراءة ثالثةً. عندما عاد الراهب أخيرًا، طلب الرئيس منه أن يأخذ سلّةً إلى البئر، ويملأها ماءً. الرهبان يطيعون. ذهب، وعاد. ولكنّ السلّة لم تحتفظ بمياهها. فطلب رئيسه أن يحاول مرّةً ثانيةً ثمّ ثالثة. في آخر مرّة، قال له: «لم تحفظ سلّتُكَ الماء، أليس كذلك؟ لكن، ألم تلاحظ أنّها باتت نظيفة؟»! هذا يذكّرنا بكلمة يسوع: «أنتم الآن أنقياء/ بفضل الكلام الذي قلته لكم» (يوحنّا ١٥: ٣).

ما من شيء أغلى من الكلمة نتّكىء عليها في حياتنا. هذه هي نور حياتنا الجديدة. هذا ما أجمع عليه تراثنا أنّ الحياة القويمة مصدرها واحد: أن نأتي من فم الله في كلّ يوم، ما دام لنا يوم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الله