...

في عمل الخير

كثرت، الجمعيّات والمؤسّسات التي تُعنى بإعانة المعوزين والمرضى والأيتام والمهجّرين. وهذه، أيًّا كانت هويّتها الدينيّة أو الاجتماعيّة، باتت ضرورةً في بلد تعوّد معظم أولي الأمر فيه أن ينشغلوا في ما يُرضيهم أو يرونه هم مُلحًّا. هل نتكلّم في السياسة؟ لا، بل على ما يرغب الحقّفيه!

طبعًا، أيًّا كان القائمون على الدنيا، العوز، لا يُعفي الكنائس من مسؤوليّاتها في الأرض. الكنائس، أي الرعايا والجمعيّات والمؤسّسات فيها من غير نوع… وإذا خصّصت الناس في الرعايا هنا، يضطرّني توخّي الموضوعيّة إلى أن أفتح هذه السطور على أمر معلوم، أي على أن ليس جميع المؤمنين، في رعايانا، قد ارتقوا إلى أنّهم هم الكنيسة. معظمهم على الإطلاق، إن كلّمتهم على برّ العضد الأخويّ مثلاً، يمدّون أنظارهم وأياديهم وأفواههم إلى دُور السادة الأساقفة. الكنيسة، في رأيهم، هي المسؤولون فيها حصرًا. ويتفاصح الناس في أمر غنى هذه الأبرشيّة أو تلك. ويلحّ عليك هذا وذاك باقتراحات، على رشدها، تراها تفتقد الاستعداد لمدّ يد المعونة. هرب، كلّه هرب من أنّنا جميعنا مسؤولون في الكنيسة وعنها!

هذا لا أزيد عليه إن قلت إنّ مؤمنين كثيرين لمّا يعتنقوا أنّ السماء والأرض قد تلاحمتا يوم أتى ربّنا يسوع وعلّقه ظُلمُنا على خشبة. لا أعني أنّهم لا يؤمنون بإتمامه التدبير الخلاصيّ، بل لا يُحسنون الجمع بين هذا الإيمـان وتجسّداتـه، أي العمل وفـق مقتضياتـه. يبـدون لا يدركون أنّ أمور السماء، أو أمور التقوى، تُحيا من هذه الأرض. يعتقدون، أو جلّهم، أنّ للأرض أمورها وللسماء أمورًا أخرى. المال من هذه الأرض، وإذًا لا علاقة للسماء باستعماله! من أين يأتي الناس بأفكارهم؟ إن صعب عليَّ أن أفصل في هذا السؤال، فمن السهل القول، إجابةً، إنّنا لمّا نفهم جميعنا أنّ المسيحيّة هي كلّ متكامل، أي هي، في آن واحد، صلاة وصوم وفكر وبذل وشركة حياة…، أي كلّها محبّة. وهذا الكلّ لا يحتمل أن نفضّل فيه وجهًا على آخر، بل أن نعتقد أنّ كلّ ما يعبّر عنه يتضمّن الآخر، يناديه، ويحمله، ويفترضه وجوبًا.

من صميم أزمتنا عينها، أيضًا ترى أنّ أناسًا كثيرين منّا مسمّرون على اعتقاد أنّ ما يتعبون في تحصيله يخصّهم وحدهم. “إذا كنت تملك شيئًا بتعب يديك، فأعطِ لتعتق من خطاياك”، و”لا تقل إنّ لك مالاً خاصًّا بك. فإذا كنّا نحن نتقاسم الخيرات الأزليّة، فكم بالحريّ الخيرات الفانية” (تعليم الرسل الاثني عشر 4: 6 و8)، تقريبًا ليس لهما مكان في فكر الإنسان المسيحيّ المعاصر! وهكذا ترى أنّ معظم المؤمنين لا يُبعدون أنفسهم، فقط، عن المشاركة في طموحات رعاياهم ومشاريعها (بناء دور العبادة وملحقاتها مثلاً)، بل، أيضًا أو قَبْلاً، يُظهرون، في اجتماعات العبادة، بخلاً عظيمًا يبديهم أنّهم يتحاشون أن يُسرقوا! وإن حاولت أن تذكّرهم بأنّ ما يقدّمونه سيكون للفقراء نصيب فيه، إذا لم يعطوك أذنًا صمّاء، فستنال منهم توبيخًا (خفيًّا أو علنيًّا) على أنّك، بكلامك على “مال الظلم”، قد خرجت على برّ التقوى!

معنى ذلك كلّه أنّ الكثيرين في رعايانا يعوزهم مَن يعلّمهم أنّ المسيحيّة شركة في كلّ شيء!

أن يعلّمهم، أي أن يعيد تذكيرهم بأنّ المسيح إلهنا الحيّ هدانا أنّنا كلّنا إخوة في كلّ شيء (أنظر مثلاً: متّى 23: 8، 28: 10 يوحنّا 21: 23). ولا أعلّي آيةً في العهد الجديد، تبيّن حقّ شركة الأخوّة، على آية أخرى (فكلّه حرفًا حرفًا يبيّن)، إن اعتمدت، في هذه السطور، على ما قاله الإنجيليّ لوقا في كتاب أعمال الرسل، أي: “وكان جماعة الذين آمنوا قلبًا واحدًا ونفْسًا واحدة، لا يقول أحد منهم إنّه يملك شيئًا من ماله، بل كان كلّ شيء بينهم مشتركًا” (4: 32). وهذه المشاركة قال عنها الكاتب عينه قَبْلاً: “يبيعون أملاكهم وأموالهم، ويتقاسمون الثمن على قـدر احتياج كلٍّ منهم” (2: 45).الـمسيحيّـة لا تُختزل. ولا نختزلها إن قلنا إنّها كلّها تركٌ كُرمى لله ولخدمة شهادته. لا أعتقد أنّه من باب المصادفة اللغويّة، أو المقاربة الجغرافيّة، أن يعلّق متّى الإنجيليّ، مثلاً، على بدء يسوع كرازته بقوله: “ثمّ ترك الناصرة…” (متّى 4: 13)، ثمّ يعقب هذا التعليق بقوله عن التلاميذ الذين ارتضوا دعوته أوّلاً: “فتركوا…، وتبعوه” (متّى 4: 20 و22)، بل بهدف تبيان القصد الخلاصيّ أنّ المسيحيّة، كلّها كلّها، أن نتبع يسوع، وحده، في كلّ شيء!

قيمة المسيحيّة، إذًا، أنّها “الحياة في (إثر) المسيح”، أو سعي حثيث إلى التمثّل به. لقد أنشد المؤمنون في الكنيسة الأولى: أنّه (يسوع) “هو الذي في صورة الله / لم يَعُدَّ مساواته لله غنيمةً / بل تجرّد من ذاتّه متّخذًا صورة عبد / وصار على مثال البشر / وظهر في هيئة إنسان…” (فيلبّي 2: 6- 11). وبهذا الإنشاد العالي، لم يقصدوا التغنّي بتنازل ابن الله فحسب، بل

أن يدفعوا أنفسهم (وَمَن يأتون بعدهم) إلى أنّ الربّ هو إيقونة حياتنا أيضًا. وما يؤكّد هذا أنّ ناقل النشيد، أي بولس الرسول، زرعه في سياقٍ أراد منه أن يدعو قرّاءه إلى أن يتمثّلوا بتواضع الربّ وطاعته. أن نؤمن بأنّ الربّ اتّخذ جسدًا، جسدَنا ما خلا الخطيئة، لهو أن نؤمن بأنّه “افتدى ما اتّخذه”، لنحبّه في غير إنسان يعلم أنّه مفتدى أو لا يعلم شيئًا. وهذا يلزمنا أن نتجرّد، نحن أيضًا، من كلّ ما يريدنا أن نعتقد أنّ لنا شيئًا، في الأرض، يخصّنا وحدنا.

لم نُرد، في هذه السطور، أن نقلّل من قيمة أيّ مؤسّسة تسعى إلى إسعاف الفقراء في الأرض، بل أن نذكّر أنفسنا بأنّ المسيح، جامعنا ومؤسّسنا وحاكمنا، يريدنا أن نكون صورته في عمل الخير، دائمًا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في عمل الخير