...

في الولادةِ الموتُ!!… وعلى الصّليبِ القيامةُ!!…

 

في الولادةِ الموتُ!!... وعلى الصّليبِ القيامةُ!!...

 

    اليومَ يولدُ مُدبِّرُ الكونِ، الرّبُّ يسوعُ المسيحُ، في مذودٍ، لأنّه لم يكنْ له مكانٌ في المدينةِ أو في قصورِ الحكّامِ والأغنياءِ!!…

   اليومَ يأتينا مخلِّصُنا حاملاً ألمَ الجسدِ اللّابسَهُ يسوعُ من زمنِ خطيئة آدمَ، لينزعَ عن آدمَ حكمَ الشّيطانِ الّذي وشوشَ في أُذنِ حوّاءَ حتّى يدخلا في اللّاحبِّ للآبِ في فردوسِهِ، فَيُسقِطا البشريّةَ فيهما وبهما، إلى جحيمِ الشّكِّ والتّخلّي!!.

   اليومَ تتحرّكُ المجرّاتُ السّماويّةُ مستضيئةً من نورِ وجهِ الطّفلِ الإلهيِّ وأمِّهِ العذراءِ مريمَ، بوداعةِ الخالقِ الّذي ارتضى أن يسكنَ صَقِعًا في مذودِ الحيواناتِ ليؤدِّبَ، بهدأةِ قبولِهِ وصمتِهِ، الشّرّيرَ الّذي أجلسَهُ الرّبُّ الإلهُ على عرشِ جمالِهِ ليَسْقُطَ هو بذاتِهِ بدءًا، بعد أن غارَ من الإلهِ الّذي قالَ في نفسِهِ عنه: “لماذا هو الإلهُ الحاكمُ، ولستُ أنا مَنْ يُطاعُ”؟!.

   اليومَ تدخلُ البشريّةُ في لعبةِ المقارنةِ والمقاربةِ بين الّذين يعرفون والّذين لا يعرفون، ليقفَ المجوسُ حَيارى حين التقوا هافّين إلى البحثِ، بل إلى اتّباعِ النّجمِ ليعرفوا أين وُلدَ المسيحُ…

   الأكوانُ التحفتِ الصّمتَ باحثةً عن جوابٍ لسؤلِها…

   “أين يولدُ المسيحُ؟!”…

   “روحُ الرّبِّ عليّ مسحَني لأُبشِّرَ المساكينَ، وأشفيَ منكسري القلوبِ… وأكرزَ بسنةِ الرّبِّ المقبولةِ”…

   اليومَ يعتمرُ الخوفُ والوجلُ قلوبَ جميعِ الّذين توارثوا روحَ الرّبِّ القدّوسَ من قبلِ أن يولدوا… لأنّهم ورثوا النّعمةَ مجبولةً بالسّقوطِ الّذي كان في فكرِ الله الآبِ من قبلِ أن يعرفَ الإنسانُ أنّه مطلوبٌ منه أن يكتبَ تاريخَ الخالقِ في ذاتِهِ، قبلَ أن يحيا هو بذاتِهِ تاريخَ الإنسانيّةِ…

   لحظةَ “الميلادِ” وُلدَ “الألمُ” محمولاً في قلبِ مريمَ البتولِ ابنًا منحَها إيّاهُ الرّوحُ القدسُ هديّةَ “النّعمِ” الّتي قالتْها، ليختارَها الآبُ حاملةً معطيَ الحياةِ في حشاها من دونِ زرعٍ وقبولِ الغربةِ وشكِ يوسفَ خطيبِها بها، وغربتِها عن ناسِها وأقاربِها، لتهربَ إلى أليصاباتَ نسيبتِها الحُبلى في شهرِها السّادس وهي العاقرُ، لتلمسَ الحقيقةَ فتتأكدَ أنّ ما يحلُّ بها هي الحياةُ من مُعطي الحياةِ…

   اليومَ تأتي البشريّةُ برّمتِها في المجوسِ الثّلاثةِ حاملةً “المرَّ واللّبانَ والذّهبَ” لحكمِ ملكِ الملائكةِ على الأرضِ…

   فالإنسانُ كان عارفًا، في سرِّ قلبِهِ، أنّ الإلهَ يخاطبُهُ في كلِّ ما يراه ويختبرُهُ في هذا العمرِ، لكنّه، وبسببِ سقوطِهِ، بقيَ معميَّ القلبِ لا يريدُ أن يعيَ أنّه هو “صندوقُ الفرجةِ” الّذي اختارَهُ الرّبُّ، ليغطّيَ وجهَهُ إذ ينظرُ عجبَ سرِّ الحياةِ الحقِّ متحرِّكًا أمامَهُ في حقيقةِ موضوعِهِ ومموّهًا في صورٍ تجري أمامَهُ وكأنّهُ في قاعةِ العرضِ السّينمائيِّ.

   اليومَ بميلادِ الطّفلِ الإلهيِّ، تُولدُ الغربةُ، ويولدُ، تاليًا، الشّكُّ والحزنُ والخوفُ، تاليًا، العريُ على الصّليبِ!!.

   “أمّا مولدُ يسوعَ المسيحِ فكان هكذا: لما خُطبتْ مريمُ أمُّهُ ليوسفَ وُجِدَتْ من قبلِ أن يجتمعا حُبلى من الرّوحِ القدسِ […] وإذا بملاكِ الرّبِّ ظهرَ له في الحلمِ قائلاً: يا يوسفُ ابنَ داودَ “لا تخفْ” أن تأخذَ امرأتَكَ مريمَ. فإنّ المولودَ فيها إنّما هو من الرّوحِ القدسِ”…

   وكان نهارٌ وكان ليلٌ وصارَ عمرُ الطّفلِ أربعين يومًا، وأمُّهُ مريمُ ساكنةٌ جنبَهُ، في حشاه. ليتمَّ هكذا ما قيلَ من الرّبِّ بالنّبيِّ “ها إنّ العذراءَ تحبلُ وتلدُ ابنًا ويُدعى عمّانوئيلَ الّذي تفسيرُهُ الله معنا”…

   منذُ ذلكَ اليومِ، بدأَ العدُّ العكسيُّ للبشريّةِ برُمّتِها في بحثِها عن “المعرفةِ”… معرفةِ الله!!.

   وكان الله يسكنُ في السّمواتِ وفي القلبِ البشريِّ وفي الإنسانيّةِ المضروبةِ بالعمى، فتدركُ أنّ الإلهَ الابنَ يسكنُ في قلبِها وهي، تاليًا، لا تعرفُهُ ولم تتعرّفْ به، لا في قلبِها ولا في حسِّ جسدِها ولا في الرّوحِ… ولا في عقلِها… فأين المعرفةُ إذًا؟!…

   وصرخَ الرّبُّ يسوعُ بعد تجسُّدِهِ ونشرِ بشارتِه في كلمَتِهُ… “يا بنيَّ أعطني قلبَكَ”!!.

   ولم يُجبِ الإنسانُ صوتَ ربِّهِ، لأنّه لم يعرفْهُ!!.

   “أين أنتَ يا آدمُ؟!… لماذا اختفَيْتَ من وجهي وأنا وجهُكَ… لماذا لم تعدْ تسمعُ صوتي؟!… لماذا ما عرفتَني وأنا فيكَ معكَ ولكَ حتّى ألتقيَكَ مشبوحًا مثلي على عُرْي صليبي، على جِلْدي، على البصاقِ المنهمرِ عليّ مثلَ زخّاتِ شتاءِ الخريفِ”…

   لماذا لم تعرفْني؟!. ألأنّكَ لم تلدْني أنتَ من حشاكَ، بل أنا أولدتُكَ من حبّي لكَ، من فدائي، حتّى تأتيَني من حشا امرأةِ الوعدِ الجديدِ، امرأتِكَ، أمِّكَ وحياتِكَ فيَّ، العذراءِ أمِّ البشريّةِ، “مريمَ”؟…

   “يا بنيَّ أعطِني قلبَكَ”… تاليًا، أعطِني عقلَكَ حتّى أسكنَهُ أنا، فأطهّرَه من زفراتِ الشّكِّ والادّعاءِ بالمنطقِ والأنانيّةِ الّتي تحفظُ الأنا الميتةَ في حضنِ الشّيطانِ، ليبعدَكَ عنّي!!.

   من الإلهُ؟!… “من الإنسانُ؟!… حتّى تذكرَهُ؟!… أنقصتَهُ قليلاً عن الملائكةِ… بالمجدِ والكرامةِ كلَّلْتَهُ وعلى أعمالِ يدَيكَ أقَمتَهُ”…

   من أقامَ مَنْ على عملِ يدَيهِ؟!… الإلهُ أم الإنسانُ الّذي ألّهَ ذاتَهُ، جاعلَها إلهًا من “ألوهيّتِهِ” هو وليس في حضنِ الله الآبِ…

   وكان الموتُ عربونَ الولادةِ الّتي شوَّهها الإنسانُ إذ أنكرَ فعلَ وعملَ الرّوحِ القدسِ المودَعِ من لدن الإلهِ في جسدِ الإنسانِ، ليحيا في عقلِ وقلبِ الإلهِ فيحيا الله فيه.

   لكنَّ الإلهَ لم يقبلْ ولا للحظةٍ أن يسطِّحَ عملَ يدَيهِ لينزلَ به إلى مستوى البشرةِ المائتةِ… فتجسَّدَ في مغارةٍ ومذودٍ حقيرٍ لتستقبلَهُ الأممُ، لا شعبُهُ، إلهًا ورئيسًا وربًّا…

   وكان على “الصّليبِ” أن يصيرَ بالألمِ الحلَّ للخروجِ من السّقوطِ … هناكَ وقفَ ربُّ الكونِ وحدَهُ على صليبِ الخزيِ والعارِ ممتشقًا أداةَ قصاصِ المجرمين والخطأةِ ليأخذَها تاليًا على ذاتِهِ ويسمّيَ الصّليبَ جسدَ القيامةِ ومطرحَ اللّعنةِ المحوِّلَهُ وهو الرّبُّ إلى بابِ الإنسانيّةِ السّاقطةِ إلى القيامةِ… إلى ممارسةِ فعلِ الحبِّ الإلهيِّ للإنسانِ حتّى يتنقّى بالعفّةِ على الألمِ المسمِّرِهِ على الصّليبِ والاختناقِ والحبّ الكذوبِ، فيحيا جِدَّةَ الولادةِ كلَّ يومٍ.

اليومَ، يُدركُ الإنسانُ أنّ في الولادةِ الموتَ وعلى الصّليبِ القيامةَ…

   فإلى الظّهورِ الإلهيِّ حيث التمعَ نورُ وجهِ المسيحِ على جبلِ الحبِّ الحقيقيِّ بالتّخلّي عن جبلِ حبِّ الذّاتِ، لانتظارِ العيشِ الحقِّ، بالقيامةِ ببشارةِ النّورِ، حتّى لا يفنى سعيُ الأبرارِ عندَ اتّباعِ ربِّهم وهم يحيون في وحلِ هذا العالمِ…

   فمن له أذنانِ وعينان فليسمعْ ويرَ…

الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان

20 كانون الأول 2015

 

 

 

 

 

في الولادةِ الموتُ!!…
وعلى الصّليبِ القيامةُ!!…