...

فدية أم فداء؟

ينقل الإنجيليّ مرقس عن لسان يسوع، أوّل إشارة مسيحيّة حول موضوع خاصّ وأساس مُستمدّ من كتاب أشعياء: موضوع عبد الله المتألّم. وذلك، عند إعلان يسوع: «لأنّ ابن الإنسان أيضًا لم يأت ليُخدَم بل ليَخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مرقس ١٠: ٤٥). سياق هذه المرجعيّة لا لبس فيه. هنا نلامس لبّ الكلام حول «الكفّارة».

لفهم هذا الموضوع بشكل أفضل، من الضروريّ البحث في معنى كلمة «فِدية». ففي صيغتها الأصليّة (باليونانيّة)، ومعناها المباشر يعني: «ما يقوم مقام الشيء دفعًا للمكروه عنه»، كاسترداد الممتلكات، سواء أكانت عقارات أم عبيدًا وإماء على سبيل المثال.

لقد ولّدَ هذا الاستخدام مختلف الاقتباسات المجازيّة، بما في ذلك الـ«ثمن» الذي قد يُسدّد عن حياة إنسان ما. وسواء أخذنا بالمعنى الحرفيّ أو المجازيّ، فقد أشارت التفسيرات الكتابيّة المبكّرة، إلى «دفعة» تُسدّد بشكل أو بآخر. ينطبق الأمر على أصل الفعل «افتدى»، بما معناه: استرجع بمقابل، اشترى من جديد، سدّد الدين…

هل هذا ما يعنيه يسوع عندما يتكلّم على بذل حياته كـ«فدية»؟ هل «يسدّد» يسوع الدَين عبر دفع الـ«ثمن» بحياته؟ وإذا كان الأمر كذلك، إذا كانت هذه التعابير تشير إلى نوع من المعاملة (التجاريّة)، لمن دفع يسوع هذا «الثمن»؟ ولمَّا كانت هذه مصطلحات تجاريّة، فربّما لن نتعجّب كيف أنّ بعض قرّاء الكتاب المقدّس قد خلصوا إلى الاعتقاد عن الخلاص كما لو كان نوعًا من الترتيب التجاريّ، كما لو أنّ يسوع على الصليب قد سدّد الثمن إلى «الدائن» من أجل تحريرنا من الخطيئة والموت. وقد صِيغت مختلف النظريّات حول عمليّة الفداء هذه بحسب هذا النموذج، والتي يتمّم يسوع بموجبها معاملة ما، ويدفع الثمن، سواء أكان للشيطان أم إلى الله أو إلى «العدالة الأبديّة»… في سبيل خلاص الإنسان.

من الواضح أنّ جميع هذه النظريّات مضلّلة. فهم يفشلون، لأنّهم يتخطوّن مغزى الاستعارة الأكثر شمولاً لهذه المصطلحات، ولا يعرفون كيفيّة استعمالها في لغة الكتاب المقدّس.

إذا عدنا إلى معاني المصطلحات: كالفداء، والفدية، والفعل افتدى؛ فعند استعمالها في حالة إعتاق العبد على سبيل المثال، فقد صارت غالبًا ما تعني أيّ نوع من أنواع التحرّر من الرقّ، سواء أكان بدفع ثمن فعليّ أم بدونه. ما يعني أنّ هذه الكلمات جاءت للدلالة على التحرّر من العبوديّة، من دون اللجوء إلى ضرورة الكلام على «صفقة» بين عملاء.

علاوة على ذلك، هناك أكثر من نوع واحد من أنواع الرقّ. الإسرائيليّون، على سبيل المثال، كانوا عبيدًا في مصر. لكن عندما «فدى» الربّ شعبه، عندما افتداهم، هو لم يدفع أيّ مبلغ من المال بالمقابل لفرعون! ولم تكن هناك أيّة معاملة تجاريّة على الإطلاق. كان على الله أن يهاجم مصر ويحرّر شعبه فقط. في هذه الحالة، «فدية» تعني ببساطة التحرّر من العبوديّة.

في الواقع، صار هذا المعنى الطبيعيّ لمصطلحات «الفداء» و«الفدية» في الكتاب المقدّس في إطار استخدامها بمعنى دينيّ، وبخاصّة عندما يكون الله هو الفاعل. هذا هو المعنى الذي فهمه الرسل عندما قال يسوع إنّ ابن الإنسان جاء «ليبذُل نفسه فِدية عن كثيرين».

ينطبق هذا المنطق عينه على معنى حديث الكتاب المقدّس عن كيف كان دم يسوع «الثمن» لخطايانا. أيضًا، الكلام على «الثمن» هنا هو استعارة لغويّة من دون وجود أدنى دلالة تجاريّة. من المؤكّد أنّ

سفك دم يسوع كان ثمن خطايانا، ولكن من غير المناسب تمامًا الاستفسار عن هويّة من «قبض» هذا الثمن.

عند استعمال كلمة «ثمن» كاستعارة، لا سيّما كاستعارة روحيّة، فإنّها لا تحمل أيّة دلالة تجاريّة. فعندما يسقط جنديّ يدافع عن بلاده صريعًا، يصير موته «ثمن» انتصار بلاده. وعندما يستعدّ رياضيّ ما للمنافسة القادمة، فإنّ هذا التمرين يصير «ثمن» فوزه. يتمّ دفع الثمن ببساطة. نحن لا نفكر في السؤال: «لمن دُفع الثمن»؟

دم يسوع هو أعظم ثمن دُفع بالمطلق، ولكن ليس هناك إجابة صحيحة عن السؤال: «لمن دُفع الثمن»؟ لا إجابة صريحة، لسبب بسيط أنّ هذا ليس السؤال الصحيح. فالسؤال يتجاهل معنى المصطلح مجازيًّا وروحيًّا. وهذا هو السبب في أنّ هذا السؤال لا يُطرح في الكتاب المقدّس ولا يجري تناوله أبدًا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فدية أم فداء؟