...

خربشات أسقف

خربشات أسقف

 خربشات أسقف

 

عنوانٌ قد يستغربه الكثيرون. إذ اعتاد معظم المؤمنين على التعاطي مع الراعي باتجاه وحيد؛ هو يعطي وهم يستقبلون. يريدون ليَده أن تبقى ممدودةً باتجاههم، وحاملةً ما يعتقدونه، هم، اللازمَ لهم، أو ما يرغبون، هم، به. عندهم، هو موجود لتأمين مطالبهم. يتعاملون معه ك “سوبر إنسان”: لا يجوز أن يخطىء، ويتعب، ويرتاح!! ولماذا عليه، حتّى، أن يفكّر بالطعام والشراب!! ينسون أنّه إنسان، ومن حقّه، أن يشعر بتواصل روحي وجداني مع أبناء رعيّته، ومع غيرهم. لا بل إنّ هذا التواصل حاجة أساسيّة ولازمة له، من أجل تأمين استمرار خدمته ونجاحها.
يحتاج الراعي إلى أن يكون ملاكاً بجسدٍ لا جسداني، حتّى يتحمّل نسيان رعيّته له. أمّا إن كان ممّن يتمتّعون بضمير مرهف، وقلب حنون، ويعيش رسالته الكهنوتية، بكلّ صدق، فليس له إلا أن يرتضي حملَ صليبه بشكل دائم، متطلّعاً، أبداً، إلى ربّه، ملتمساً منه، ومنه وحده، التعزيةَ الحقيقيّة.

حاجات شعب الله كثيرة ومتنوّعة؛ فيها الروحيّ والاجتماعيّ والمعيشيّ والنفسيّ … ما يجعل دورَ المؤمنين، الواعين لمسؤوليتهم الإيمانيّة، لا غنى عنه. فكيف للراعي أن يحقّق في شخصه كلّ هذه الأمور، وهو لا يرى إلا من يطالبه باحتضانه، فيما ما من أحد يحضنه هو.
أتساءل بين حين وآخر: ما هي صورة الراعي حقّاً في أذهان المؤمنين؟ في الواقع، ثمّة من يُدهَش منهم، عندما يكتشفون أنّه إنسان، وبحاجة إلى تواصل إنسانيّ على الأقل، إن لم نقل روحيّاً!! فصورته في أذهانهم تصنّفه في مرتبة سامية جدّاً. ولكنّهم يقيمونه وحده فيها، ويعفون أنفسهم منها، متناسين أنّه وإيّاهم مدعوّون إلى القداسة ذاتها.
وفي الوقت ذاته، لا يرحمونه إزاء أيّ تصرّف أو سلوك أو موقف أو حتّى كلمة لم تعجبهم. ليس المقياس، عندهم، مدى توافق رعايته مع الإنجيل! المهم، عندهم، أنّه لم يؤمّن لهم مطلبهم، حتّى لو حاول وبذل ما يفوق طاقته ولكنّه عجز.
وصف القدّيس تيخون الزادونسكي هذه الحالة، منطلِقاً من معاناته الشخصيّة، فقال: “إذا حفظ نفسه من الخطيئة قالوا إنّه “متزمّت!”؛ وإذا حزن على خطيئته قالوا إنّه :”سوداويّ!”. إذا وزّع الحسنات قالوا إنّه: “مراءٍ!”؛ وإذا استزاد من الصلاة، قالوا “من الغيورين!”، إذا أُهين وسامح، قالوا: “لا يقوى على الدفاع عن نفسه!”. وإذا سخى على الفقراء، قالوا: إنّه “أحمق مبدِّد!”.
أسرّ لي مطران روماني، تعدّ أبرشيّته ما يزيد قليلاً عن مليون نسمة، بأنّ معاناته العظمى تكمن في كيفيّة رعاية المؤتَمَن عليهم، بحسب متطلّبات الإنجيل، في حين لا يريد ذلك كثر منهم ، بل يطلبون منه أحياناً ما يخالف الإنجيل.
ذكّرني كلامه بالقدّيس الكبير اسحق السوري، الذي أُقيم أسقفاً على مدينة نينوى (العراق)، في القرن السابع. هذا أتى إليه رجلان متخاصمان حول حقل. قال لهما يقول الإنجيل كذا. فأجابه أحدهما مالي وللإنجيل، أنا أريد حقّي. فقال الأسقف ماذا أفعل هنا إذن؟ وليس لي عمل سوى الإنجيل! فهجر المطرانيّة إلى البريّة حيث تنسّك، وصار من أكبر القدّيسين الروحانيّين.
أمّا عدم اهتمام الرعيّة بإصلاح حالها، وتطهير نفوسها، وبرودتها الروحية، واكتفائها بما هي عليه، فميدان آلام روحيّة أخرى للراعي. ما هو عمل الأسقف إن لم يكن تقديسُ حياة أبنائه، ومساعدتُهم على السير في هذا الطريق؟! تقوم الأولويّة في خدمته على رعاية كلّ ما من شأنه أن يؤدّي بهم إلى تقدّم في عيش إيمانهم المسيحيّ.
خدم القدّيس تيخون الزادونسكي أبرشيّته الفقيرة، روحيّاً وماديّاً، بتفانٍ، وحاول إنهاض شعبها، روحيّاً، بكلّ ما منحه الله من حكمة وقوّة. لكنّه كتب في مذكّراته عن الواعظ، الذي استقدمه لكي يعلّم الرعيّة: “عبثاً يُتعِب الواعظ الفقير صوته”. ولا شكّ في أنّ مرضه، الذي احتجّ به، ليطلب من المجمع المقدّس الروسي إعفاءه من خدمة الأسقفيّة، إنّما كان نتاجَ معاناته الأليمة، مع شعب لم يتحضّر بآداب الإنجيل، ولا يريد ذلك. فأكمل بقيّة حياته في أحد الأديرة، منصرفاً إلى حياة التأمّل والصلاة وعمل الصدقات.
يتعاطى الناس، عموماً، مع الأسقف، بصفته صاحب مركز اجتماعيّ أو سياسيّ، له مكانة عليا، أكثرَ ممّا يعاملونه أباً روحيّاً، مُقاماً للسهر على خلاصهم. يريدونه أن يؤمّن احتياجاتهم المادّيّة لا الروحيّة. وفي بلداننا الشرقيّة، حيث لا ينفصل الدينيّ عن الاجتماعيّ، يريدونه موافِقاً لهم على ما يرغبون به، ولو كان مضادّاً للإنجيل. وإلا كان بنظرهم متشدّداً، أو متزمّتاً.
هذا يجعله في مخاض ضميريّ دائم. فإلى أيّ حدّ يمكن لضميره أن يسايرهم، ويغضّ الطرف عن بعض تصرّفاتهم، خاصّة، عندما يفرضون مشيئتهم على قضايا إيمانيّة أساسيّة، فيحرفونها ويطعنونها في الصميم؟ أيكون قد بلّغ الأمانة إن وجهّهم بحسب مرضاة الربّ، ولم يستجيبوا؟
بينما يريده بعضهم رجل أعمال، بنّاء، مُطلِقاً لإنجازات، مستثمراً في الوقف، يراه آخرون رجل سياسة. والسياسة، في عرفهم، تثبيت لوجودهم، وتحقيق لمنافعهم. بعضهم يطالبونه بتلبية ما يعتبرونه واجبات اجتماعيّة، ويرغبون بترؤسه ولائمهم الفاخرة، ولو كان الحديث يطرق كلّ الميادين، إلا ما يختصّ برسالته الدينيّة أو الروحيّة. آنذاك يكون، في عرفهم، محدِثا لبقاً “يبيّض الوجه”!!
أمّا أن يكون رجلَ الله، طاهراً، نقيّاً، رجل صلاة، وافتقاد، مُلزِماً نفسه بوصايا الإنجيل، فلا يعتبرونه وافياً بالمطلوب. يقولون: مكانه الدير لا الأبرشيّة، ولو وزّع جسده على الفقراء.
لم يخرج شعبنا المسيحيّ في الشرق من مفهوم المطران القبضاي، المدعوم أربعمائة سنة من النظام العثماني، الذي قام على أساس الملّة، وجعل المطران بمثابة محافظ لطائفته، ومدبّرٍ لشؤونها الزمنيّة أمام السلطات.
أمّا أكثر ما يُشعر الراعي بالغربة الداخليّة، فهو أن لا يجد تجاوباً معه، في نطاق أبرشيّته. كأن لا يلاقي اهتماماً من رعيّته، سواء وعظ أم لا؛ أو أن يتحلّلوا من مسؤولياتهم تجاه كنيستهم، ويطالبوه في الوقت ذاته، باجتراح الإنجازات والعجائب. أن يعتبر المؤمنون أنّ الأبرشيّة ومواردها مزرعة الأسقف الشخصيّة، لهو منتهى الانسحاب من التزامهم الإيماني، ولكن أن يجعلوا تأمين كلّ خدمة، على أكتاف الأسقف أو الكاهن، فهو منتهى الجهل، إن لم نقل توصيفاً واقعيّاً أقسى.
يكتفي الكثيرون بانتقاد رعاتهم “ع الطالع والنازل”، بما يصحّ ولا يصحّ، بما لا يعجبهم ولا يرونه نافعاً لهم، وفي الوقت ذاته يعفون أنفسهم من كلّ مسؤوليّة. وكأنّ مسؤوليّتهم تُختَصر في الانتقاد والتهجّم! والأنكى من هذا، أنّهم يتناولون حياته الشخصيّة في كلّ تفصيل، بدءاً ببيته وليس انتهاء بمصروفه. يراقبونه ويحاسبونه على أمور معيشته، وقلّة منهم فقط، هي التي تهتّم به حقّاً، لترعاه وتتواصل، في العمق، معه. أمّا الذين يريدونه رجل الله بامتياز فهم أقلّ من القلّة!

ومع ذلك يستغربون أن يختبر الغربة وهو في وسطهم؟!

 من صفحة المطران سابا (إسبر)

20 حزيران 2016

 

 

 

 

خربشات أسقف