...

حتى لا يفرغ المذود!.

 

 

“إذا سكت هؤلاء، فالحجارة تصرخ”
(لو19: 40)

 

   ليس عندنا، في الكنيسة، سلطة، بمعنى أنّ ثمّة مَن يتسلَّط باسم الله!. الثّيوقراطيّة مفهوم غريب عن وجدان الكنيسة الحقّ!. عندنا خدمة ذات طابع نبويّ، إلهيّ بشريّ!. الأوّليّة بيننا أوّليّة في هكذا خدمة!. هكذا المتقدِّم!. يجعل نفسه آخرَ الكلّ وخادمًا، أي عبدًا، للجميع!. السّيادة والتّسلّط لا مطرح لهما في الوجدان الكنسيّ القويم!. لذا قيل: “رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلَّطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم” (متّى 20: 25 – 26)!. السّلطة الّتي تُمارَس في الكنيسة، على غرار ما يتعاطاه رؤساء الأمم في العالم، بادّعاء الخدمة، وعلى أساس أنّها خدمة، تشويهٌ للخدمة!. في السّلطة تسوس وفي الخدمة تبذل!. ذروة السّياسة العدل وذروة الخدمة البرّ!. العدل أن تعطي كلّ ذي حقّ حقّه، والبرّ أن تبذل نفسك، لا فقط من أجل السّالكين في الحقّ، بل من أجل السّالكين في الباطل، أيضًا!. بالعدل تتوسّم ما هو بشريّ، وبالبرّ ما هو إلهيّ!. لذا العدل والبرّ لا يتماهيان!. العدل لا يرقى إلى البرّ، والبرّ أرقى من العدل!. فمَن سلك في البرّ ما عاد بحاجة لأن يسلك في العدل، وإن سلك فيه فلئلا يُعثر الضّعفاء!. في كلّ حال، المؤمنون إخوة، في العمق إخوة، ولا شيء يجمعهم إلاّ الأخوّة، ولهم أب واحد، مَن هو فوق!.

   السّلطة، لكي تتعاطاها، تحتاج إلى قوّة!. من دون قوّة لا تقوم قائمة لسلطة!. لذا السّلطة تُفرَض فَرْضًا!. تحقِّق بغيتها بالإرهاب!. طبعًا، لا الإرهاب بمعنى العبث بإثارة الرّعب!. بل الإرهاب بمعنى أن تكون للقيِّم على القانون رهبتُه في النّفوس!. مستنَد السّلطة الخوف!. لذا السّلطة تعاقِب المخالِفين!. وقد يصل العقاب، أحيانًا، حدّ الإعدام، عبرةً للنّاس!. أيضًا وأيضًا، هذا إذا عدلت السّلطة!. أمّا إذا لم تعدل، فقد تبلغ من الشّكليّة والعشوائيّة والنّفاق والرّياء والفساد والظّلم حدود العبث والفوضى والخواء المطبِق!.

   أمّا الخدمة، لا سيّما لدى المتقدِّمين فيها، الّذين يؤمّون الجماعة، المعتَبَرين أعمدةً، المدبِّرين، فلا تحتاج إلى قوّة لتفرض ذاتها على أحد!. طبعًا، في الكنيسة ما يُعرَف بـ”الشّرع الكنسيّ”. هذا يُطبَّق على المخالفين، لا لمعاقبتهم – لا عقاب في الكنيسة – بل لإصلاحهم!. مستَنَد الخدمة، والحال هذه، ليس الخوف من العقاب، بل الخوف من الله!. الكنيسة تؤدِّب؟!. بكلّ تأكيد!. ولكن لا لتتشفّى، بل لتشفي بالتّوبة والحرمان والتّكفير!. على أنّ التّوبة، في سياق الحياة المسيحيّة، لا تُفرَض فرضًا!. يلتزمها المؤدَّب بإرادته، ويقتبل الحرمان علاجًا، ويُخضِع ذاته للتّكفير تنقيةً، باتّضاع قلب، متى لُفظ حكمُ الشّرع الكنسيّ بحقّه!. يَعرف، في قرارة نفسه، أن في التّأديب خيرًا لنفسه وخلاصًا!. بإمكانه، طبعًا، أن يتمرَّد!. إذ ذاك يُقطَع من الكنيسة عساه يرعوي!. انتماؤه أو عدم انتمائه إليها، في نهاية المطاف، خيار شخصيّ!. فإذا ما سلك في التّوبة، فإنّ ما ترومه الكنيسة له هو استعادة عِشرة الله ورهبته اللّتَين يكون قد خسرهما بتأثير إقباله على المفاسد كالابن الشّاطر!. التّوبة، والحال هذه، تتكلَّل باسترداده مخافة الله ونقاوة القلب وسلامة النّيّة، ومخافةُ الله تُعيده إلى فَلك الله، وتعيد له الاتّزان الدّاخليّ، الّذي يدفعه قدُمًا، من جديد، في معارج الحياة الرّوحيّة القويمة!.

   في السّلطة، بين النّاس، هناك سيِّد وهناك مَسود عليه. في الخدمة، في الكنيسة، ليس الأمر كذلك. ثمّة سيِّد، طبعًا، ولكنْ، الّذي في السّماء!. سيادة مَن هو فوق مختلفة، تمامًا، عن سيادة مَن هم على الأرض!. السّيّد الرّبّ الإله محبّة، لذا هو عبد، خادم، باذل، مبذول!. سيادته من محبّته، إذًا ليست من نوع السّيادة الّتي نعرف بشريًّا!. لا يتعاطاها لا بالإكراه ولا شرفًا!. يتعاطاها بالإيمان: إيمان بني البشر به!. في ذاته، ليس الله سيِّدًا!. في ذاته محبّة!. لذا يتجلّى في إفراغ الذّات!. في امتداده صوب الآخر!. لا يسود، قسرًا، على أحد!. الخَلْق، من جهة الله، فيضُ محبّة!. ومع ذلك، هو سيِّد بإزائنا!. ولأنّه سيِّد بإزائنا هو سيِّد علينا!. هذا ليس لأنّه هو يفرض نفسه سيِّدًا علينا، بل لأنّنا نحن نفترضُه على أنفسنا!. المحبّة لا تفرض ذاتها على أحد!. المحبّة تستدعي المحبّة بملء حريّة مَن تمتدّ صوبه!. لذا نحن الّذين يتّخذون الله سيِّدًا، وسيِّدًا أوحد عليهم!. هذا يبدأ بالإيمان، كما قلت، أي بالثّقة اليقينيّة الكاملة بالله، ويمتدّ بالطّاعة لوصاياه، ويتكلَّل بالاتّحاد به بالمحبّة والنّعمة!.

   بالعودة إلى مدبِّرينا، نحن نطيعهم في المسيح!. نطيع المسيح فيهم!. بالرّوح عينه، روحِ الله، الّذي فينا، نطيع روح الله الّذي يدبِّرنا في مدبِّرينا!. لذا نحن لا نطيع لا الهراطقة، ولو تلبّسوا بهيئة المدبِّرين، ولا مَن يسلكون بخلاف الشّرع الكنسيّ والتّقليد الشّريف المتعارف عليه!. المدبِّرون، من ناحيتهم، يسلكون كقدوة للمؤمنين، يرفقون بالضّعفاء، ويقسون على المخالفين المستكبرين، بمثابة إيقونات حيّة لمسيح الرّبّ، راعيًا. يأتون الرّعيّة من الرّاعي الصّالح حتّى لا تجفل الخراف وتتبدَّد وتضيع!. أتحبّني يا بطرس؟ ارعَ خرافي، ارعَ حملاني!.

   لا أقسى من أن يُفتقد وجه المسيح في المدبِّرين، ولا أوجع من أن تمسي الخراف أعجز من أن تتبيَّن صوت المسيح فيهم لأنّه يمسي ناشزًا!. متى غار المدبِّرون في سلطانهم باسم الله، تحوّلوا من تدبير الرّعيّة إلى تدبير نفوسهم وأهوائهم!. وباتوا يرعون أنفسهم ولا يرعون، بعدُ، القطيع!.

   الرّعاة يندرون والسّادة يزدادون، والرّعيّة في شتات شاردون!. ائتمان الرّعيّة الواحدة للرّاعي الواحد، ماذا بقي منه؟!. ثمّة خوف من انقسام؟!. الانقسام حاصل!. المدبِّرون في عالم وأهل البيت في عوالم أخرى!. وجه المسيح بالكاد تتبيّنه، هنا وثمّة، ووجوه أضداد المسيح تملأ المكان!. ماذا بقي حتّى لا نتكلّم، بعد!. نخشى العثرة؟!. أهي المبالاة دافعُنا، خشية العثرة، أم اللاّمبالاة؟!. أَمِنْ براءةٍ، بعدُ، إلاّ لدى النّدرة، حتّى نخشى العثرة؟!. الأكثرون في غربة… عن المسيح، كأنّهم غير معنيّين بما يجري!. أو، بتعبير أدقّ، بات المسيح غريبًا عنّا، عن أكثر شعبه!. لو لم تبق لنا بقيّة لشابهنا صادوم وصرنا كعامورة!. هذه الّتي قلنا: أبواب الجحيم لن تقوى عليها، تُسيَّب كلّ يوم!. تركوني أنا، ينبوع الماء الحيّ، وحفروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا، لا تضبط ماء!.

   قالوا: المحبّة هي الكنيسة!. قلت: أين تجدها، بعدُ؟!. تعطيها؟!. صحيح!. لكنّ الأكثرين بحاجة لأن يأخذوا، والمؤن في السّوق شحيحة!. ما شعرنا بأنّ مسيح الرّبّ يرعانا مباشرة أكثر من هذه الأيّام، وإلاّ لَكُنّا قد خُرنا!. إلى مَن تذهب؟!. ليس، بيسر، مَن تذهب إليه!. مَن تتعزّى لديه!. مَن تلقي برأسك على كتفه!. عندك الكيدي وعندك العبثيّ وعندك النّفعيّ!. كأنّ البيت ليس، بعدُ، بيت صلاة!…. طبعًا، طبعًا، الكلّ، بالسّلطة “المخوّلة” لهم، يتكلّمون!. ولكنْ أين، بعد، التّراث الحيّ لمَن قال: أمّا أنا وأهل بيتي فللرّبّ!.

   بتَّ تخشى من الغد، ماذا يحمل لك!. ثمّة حسّ يذوي!. والأكثرون ينقضّون على خناق بعضهم البعض!. الكلّ يزعم أنّه المنقِذ، ويا للمفارقة(!.)، وغيره الجاني، فيما السّفينة تغرق باطّراد!.

   غدًا، يفد المجوس من البعيد!. أتراهم يجدون أحدًا في المغارة، والطّفلَ في المذود؟!. ماذا تغيَّر؟!. في ذاك الزّمن، لم يكن له مكان في المنزل. أَلَهُ، في هذا الزّمان، مكانٌ بعدُ؟!. ابحثوا عنه، إذا طلبتموه، عند فقراء شعبي، عند بقيّة بسطائي، عند مشرَّديّ، عند مُتعَبيّ!. إن كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة ينقصهما قوتُ يومِهما، وقال لهما أحدكم: “اذهبا بسلام فاستدفئا واشبعا، ولم تعطوهما ما يحتاج إليه الجسد، فماذا ينفع قولُكم (يعقوب)؟!.

   ماذا ننتظر بعد؟!. لا شيء من هنا!. ننتظر مجيئه!. تكفينا هنا رحمة الله!. الخلاص بالإنسان باطل!. واليوم أكثر من الأمس!.

   ويل لنا لأنّنا خطئنا!. لهذا سَقُمت قلوبُنا، ولهذا أظلمت عيونُنا!.

   صار لي كلام الرّبّ عارًا فقلتُ: لا أذكره!. لكنّه كان في قلبي كنار محرقة، أجهدني احتمالُها ولم أَقوَ على ذلك (إرميا)!.

   سألتُ راعي هذه الأبرشيّة، يومًا: لِمَ يسمح الرّبّ الإله برعاة على غير قلبه!. قال: تأديبًا لشعب قاسي الرّقبة!.

   اللّهم تب علينا واغفر لنا وافتقدنا برحمتك واسترددنا!.

 

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان

 

عن “نقاط على الحروف”، 21 كانون الأول 2014

 

 

 

 

حتى لا يفرغ المذود!.