...

جحيم اللاّمبالاة!.

جحيم اللاّمبالاة!.

 

الإنسان إحساس. يَضمر الإحساس فيه فيموت. إذ ذاك، تموت مقوِّمات الإنسان فيه قبل أن يموت جسدُه ويُوارى الثَّرى!.
كيف تعرف إن كان فيك إحساس أم لا؟ لا أقصد ما تظنّ في نفسك، بل ما أنت عليه. إن أحسست بألم غيرك!. أقول بـ”ألمه” لأنّ كلّ إنسان متألّم. الألم هو أدلّ إشارة على واقع الإنسان!. لا يكفي أن يحسّ المرء بألمه الخاصّ به ليكون إنسانًا. الحيوان، أيضًا، يحسّ بما هو خاصّ به. لكن هذا لا يجعله إنسانًا. كذلك، يحسّ الحيوان بمعاناة مَن له. لكنْ، هذا، لأنّهم له، منه… حتّى لو أحسّ ابن آدم بمعاناة مَن له، فهذا يبقى في حدود الإحساس بخاصّته هو، في الامتداد!. ولا هذا يجعله إنسانًا!. الإنسان يبدأ مشروع إنسان، طاقة إنسان، إنسانًا بالقوّة، بالمعنى الفلسفيّ للكلمة!. الإحساس يقتنيه بالجهد!. ينمو فيه بالتّعب!.
للإنسان أميال، أهواء، نزعات، استعدادات… الحيوان تسيِّره الغريزة. ما يأتيه يأتيه بقوّة الغريزة؛ يدافع عن نفسه، لحفظ البقاء، بقوّة الغريزة؛ ويفترس بقوّة الغريزة!. لذلك، لا يعرف الحيوان الخطيئة!. الإنسان ليس كذلك. ليست للحيوان إرادة. للإنسان إرادة. في الإنسان ما هو شبيه بما هو في الحيوان، لكنّه ليس حيوانيًّا، لأنّ للإنسان قلبًا. كلّ ما في الإنسان محكوم بالقلب!. يحبّ، يكره… الحيوان لا يحبّ ولا يكره!. لذلك يعرف الإنسان الخطيئة!. الخطيئة موضوع إرادة، موضوع قلب!. الخطيئة، في الإنسان، هي أن لا يحبب!. كلّ خطأ في الإنسان له علاقة بالخطيئة فيه!. الإنسان يحبب أو لا يحبب. لا شيء بين هذا الأمر وذاك!. إن أحبّ أحسّ بآلام غيره، بآلام الغرباء عنه، الّذين لا رابط قربى له بهم، ولا مصلحة تشدّه إليهم!. فقط لأنّه يحبّهم ينعطف صوبهم. لا يطلب شيئًا لنفسه فيهم. يطلبهم لذاتهم. هذا ما يصيِّره إنسانًا. يحقّقه كإنسان. لا يولد الإنسان إنسانًا. يصير إنسانًا!. فقط بالمحبّة تستقيم نفسه!. للحيوان إحساس عضويّ نفسيّ. طبعًا، للإنسان، أيضًا، إحساس عضويّ وشعور نفسيّ خاصّ به، لكنْ، ليس هذا، بصورة أساسيّة، ما يميِّزه!. ما يميِّزه، في العمق، هو إحساسه في القلب، في الكيان!. كلّ اعتبار للإنسان حيوانًا متطوّرًا، بما في ذلك القول به، في الأصل، نوعًا من الأسماك أو القرود، فكر عبثيّ، هرطقة إنسانيّة، تأتي من اعتبار الحبّ واقعًا عضويًّا شعوريًّا، ما يجعله معطًى حيوانيًّا!. متى اقتبل أحدٌ مثل هذا التّصوّر عن الإنسان، اقتبل، لا بل اكتفى من مقارنته بالحيوان بما للعقل من قوّة فيه، فقال بالإنسان “حيوانًا عاقلًا!. في هذا السّياق، كلّ تعامل للإنسان مع الحيوان كأنّه مع الإنسان، أو كأنّه يستعيض به عن الإنسان، لا يعدو كونه إسقاط مشاعر وانحرافًا وإمعانًا في فقدان الإنسان الإحساس الكيانيّ القويم بالآخرين وآلامهم، ما يضربه بالاختلال الكيانيّ في مستوى القلب!. في هذا الاختلال، بالذّات، يكمن عمق الخطيئة في الإنسان!.
على هذا، ليس الخيار بين أن يصير الإنسان إنسانًا بالإحساس، بالحبّ، أو أن يكون حيوانًا، أي يسلك حيوانيًّا!. كلّا!. بل إمّا يصير الإنسان إنسانًا أو يصير شيطانيًّا!. أنتم من أب هو إبليس وأعمال أبيكم تعملون، قال يسوع لليهود!. إمّا يعمل الإنسان أعمال الله، أي يحبب، لأنّ الله محبّة، فيصير الله أباه، وإمّا يعمل أعمال إبليس، أي يحبب نفسَه، لا إلّاها، لأنّ إبليس هو المغترّ بذاته، فيصير إبليسُ أباه!. روحيًّا، أنت ابنُ مَن تعمل عمله!.
عمل إبليس، ما أساسه؟ أساسه الكذب والقتل!. فمَن يعمل أعمال إبليس يرائي، يراوغ، يداهن، يخدع، يحتال… لذلك يتظاهر بالنّور وهو ظلمة. في قرارة نفسه، ابن إبليس فاسد النّيّة، غرضيّ، لا يطلب إلّا ما لنفسه، ولا يبالي إلّا بما لنفسه. يمكن أن يَصدق في الظّاهر، لكنّه لا يستطيع أن يتعاطى الحقّ!. بلى، يصدق، أحيانًا، ولكنْ ليخدَع!. هذه أفضل الحيلة عنده!. يصدق ولكن في معرض الكذب!. أمّا مَن يعمل عمل الله فإنّه يكون سليم الطّويّة، محبًّا، صالحًا!. لذا يكون في الحقّ!. قد لا يصدق أحيانًا، لكنّه لا يستطيع أن يتعاطى الكذب!. بلى، لا يصدق، أحيانًا، ولكنْ، لينفع، ليقي!. قد لا يقول الصّدق ولكنْ، يكون ذلك في معرض الحقّ!. في عالم السّقوط، لا يناسب، دائمًا، أن تكون صادقًا!. هذه ليست دعوة إلى الكذب أو تبريرًا له!. كلا، أبدًا!. المهمّ، أوّلاً وأخيرًا، أن يكون الحقّ فيك!. فلأنّ هناك سقوطًا، لم يعد هناك تلازم بين الصّدق والحقّ!. قبل السّقوط، لم يكن الأمر كذلك، ولا هو كذلك بعد القيامة العامّة!. في هذا السّياق، أمران يلفتان: كان السّيّد، أحيانًا، يتظاهر بما ليس عليه، كما في مرافقته تلميذَي عمواس. فعندما اقتربوا من القرية، تظاهر يسوع كأنّه منطلق إلى مكان أبعد (لوقا 24: 28)!. وعدم قول الصّدق، أحيانًا، يتضمّن الإخفاء!. يسوع أخفى عن عيون اليهود الويلَ الّذي كان ينتظرهم لنجاسة قلوبهم (لوقا 19: 41 – 42)، كما أخفى عن التّلاميذ فَهْم قوله لهم، إنّ ابن الإنسان سوف يُسلَم إلى أيدي النّاس، لأنّ السّاعة، ساعة إدراك معنى ما قاله لهم، لم تكن قد حانت، بعد!. عدم قول الصّدق، عند ربّك، هو للأثيم، المعاند، بقصد الحرمان، لأنّ له عينَين ولا يُبصِر وأذنَين ولا يسمع؛ وهو للصّدّيق، بقصد البنيان، لأن لكشف الحقّ، عند ربّك، أزمنة وأوقاتًا!. إذًا، الكذب شيء وعدم قول الصّدق شيء آخر!. الموضوع موضوع نيّة!. الكذب ينبع من إثم القلب الكذوب، فيما اللّاصدق من تدبير القلب المحبّ، المقيم في الحقّ!.
والكذب، في الكَذوب، عديم الإحساس بالآخر، أي لا يقيم وزنًا للآخر ولا يبالي بمعاناته!. الآخر عند الكذوب نكرة لأنّ قلب الكذوب حجر!. لذلك يترافق الكذب والقتل في إبليس، وكذا في أبنائه، لأنّ إبليس أبُ كلّ كذوب، وهو القتّال للنّاس، من البدء، وأب كلّ قاتول!. ليس القتل نحرًا للآخر في جسده، متى نحر أحدٌ الآخر، إلّا لأنّ الآخر، في قلب الكذوب، شيء وليس كيانًا!. الكذوب يشيّء الآخرين، يلغيهم، لا يبالي لا بهم ولا بآلامهم، وهذا عينُ قتلِه إيّاهم، سواء نحرهم في أجسادهم أم لم ينحرهم!. ناحرهم هو، في قلبه، في أرواحهم، متى كان كذوبًا!.
على هذا، أنت لست إنسانًا في ذاتك. تصير، تتحقّق، تصبح ناجزًا، كإنسان، تتكمّل، بالانعطاف، صوب الله، أوّلًا، وبالله، صوب النّاس، كلّ النّاس، بلا استثناء!. هذه حركتك الدّاخليّة لينمو ويتفتّح الإنسان الإلهيّ فيك، الإنسان الّذي شاءه ربّك، في الخلْق، أن تكون إيّاه!. ولأنّك تأتي من واقع السّقوط، مسيحك يأتيك كطبيب، ووصيّته كدواء!. طاعتك له علاجيّة!. لذا، ليس بإمكانك أن تسلك في وصاياه، إلّا بغصب النّفس، بالجهاد، بالتّعب!. لعازر، الّذي هو أنت، مريض!. لعازر، اللّفظة، يعني مَن يعينه الله، أو مَن لا معين له إلّا الله!. أنت لا تعرف طبيعة مرضك!. فقط تعي مرضك لأنّك تعاني، تتألّم، تقيم في الفراغ، في القلق، في الخوف العميق، في الاضّطراب!. تدرك، في عمق نفسك، أنّ مرضك للموت، نظير كلّ الّذين ماتوا!. غيرك سعى وأنت تسعى لاجتناب العاقبة، ولكنْ على غير طائل!. واحد فقط يقول لك كما قال للعازر ذات مرّة: “هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله…” (يوحنّا 11: 4)!. ألم يكن يسوع يعلم أنّ لعازر سوف يموت في الجسد؟ ومع ذلك قال ما قاله وترك لعازر يموت!. كان يتحدَّث على موجة غير الموجة العاديّة للنّاس!. هناك مرض جسديّ وهناك مرض روحيّ!. المرض الجسديّ يؤدّي إلى موت الجسد، والمرض الرّوحيّ إلى موت الرّوح!. المرض الرّوحيّ هو أساس المرض الجسديّ والموت الجسديّ!. لو تكلّم يسوع على المرض الرّوحيّ وشفاء الإنسان منه، وكذلك على الموت الرّوحيّ وقيامة الإنسان منه، دون أن يشفي أمراض الجسد، ويقيم الموتى، فمَن كان يصدِّق ما يقوله؟ ما كان أحد ليؤمن به، ليثق بأنّ ما يقوله حقّ!. لذلك شفى المرضى مرّات ومرّات. حياته ملأى بأخبار الأشفية الّتي جرت على يديه. وكذلك، أقام الموتى: ابنة يايرس، رئيس المجمع، ابن أرملة نايين… وهنا يسوع يقيم لعازر بعد أربعة أيّام من موته!. كلّهم عادوا فماتوا من جديد!. صحيح!. لكن يسوع قام بالجسد إلى الأبد، وهو يقيمنا بالرّوح منذ الآن!. أما قال: مَن كان حيًّا وآمن بي فلن يرى الموت إلى الأبد؟ إذًا يسوع أعطانا البرهان أنّه يقيم الموتى، وقام هو وظهر لكثيرين!. وهو سيقيمنا في الجسد، في الوقت الّذي ارتآه في تدبيره!. أما قال: “تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسّامعون يحيون…” (يوحنّا 5: 25)!.
لكلّ ذلك، تطيع يسوع لتُشفى، لتحيا. هو وحده المخلِّص، الطّبيب والمحيي!. تتعب في حفظ وصاياه لتفعل نعمةُ الله، من خلال وصاياه، فيك!. بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئًا!. فقط بالوصيّة، وتاليًا بالنّعمة الّتي تأتي من حفظ الوصيّة، تُعطَى أن تستقيم علاقتك بالنّاس. تصير قابلًا للإحساس بآلام النّاس. لا فقط تحسّ بآلامك الخاصّة، بل تعرف خطيئتك وتحسّ بفظاعتها ووطأتها عليك!. وخطيئتك غربتك عن الله!. غربتك عن النّاس من غربتك عن الله!. لذا متى عدت إلى نفسك، أي متى وعيت حقيقتك العميقة، ومن ثمّ عدت إلى الله، أي تبت إليه، وجدتك تعود، بصورة تلقائيّة، إلى النّاس. تقاربهم، تنعطف صوبهم، تحسّ بمعاناتهم!. وحدها معرفتك بخطيئتك وإحساسُك، بعمق، بها، يتيح لك أن تعرف حقيقة معاناتك، ومن ثمّ تجعلك حسّاسًا، حتّى التناضح، لمعاناة الآخرين!. فقط، إذ ذاك، يصير النّاس شركاء في حمْل آلام بعضهم البعض ويتحابّون، ويأتي تعبيرهم عن هذا التّحابّ في خطّ قول السّيّد: “احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمّموا ناموس المسيح”!. هذه وحدها علامة الشّفاء، وهذا وحده عربون القيامة!.
في مناخ اللّامبالاة الرّاهنة، في تعاطي النّاس، أحدهم بالآخر، يُفتقد إحساسُهم بعضهم بالبعض الآخر. الإنسان يموت!. أين تجد الإنسان، بعد؟!. أبناء إبليس يُفسدون أنفسهم ويملأون الأرض!. يتهافتون على الكذب والموت!. كلٌّ قتيل أهوائه وقاتل أخصّائه!. أعداء الإنسان أهل بيته!. لذّة الكذب تسري في عروقهم ومتعة الموت في أحشائهم!. الأرض تستحيل جحيمًا، والإنسان وحشًا!. ولكن، ثمّة بقيّة تشهد، وهي ملح الأرض، وتبقى كذلك، إلى أن يجيء ربّك في مجده!.

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 8 تشرين الثاني 2015

 

 

 

 

 

 

جحيم اللاّمبالاة!.