...

ترميم القبر المقدس… بين التبذير والتوقير!

 

 

بعد أن قمتُ في صباح هذا اليوم بنشر خبر مفاده الانتهاء من عملية ترميم القبر المقدس بكنيسة القيامة بالقدس، حتى بدأت تظهر بعض التعليقات من أتباع الطوائف البروتستانتية، يُعبّرون من خلالها عن استيائهم من صرف هكذا مبلغ كبير من المال (نحو 4 مليون دولار) في سبيل هذا المشروع، معترضين على ذلك بحجّة أن توزيع هذا المبلغ على الفقراء والمحتاجين هو أحقّ وأولى وأكثر قبولاً ومرضاةً أمام الرب من انفاقه على ترميم القبر المقدس! 
 في الواقع يُذكّرنا موقف هؤلاء المعترضين على ترميم القبر المقدس، بحادثة جرت في بيت عنيا، حيث كان الرب متكئاً في بيت سمعان الأبرص، اذ جاءت امرأة ومعها قارورة طيب ثمينة جداً، وأفاضتها على رأس السيد المسيح… فاستاء البعض من ذلك وقالوا: “لم هذا الاتلاف؟ فقد كان يُمكن أن يُباع هذا بكثير ويُعطى للمساكين” (متى8:26). ولكن ماذا كان موقف السيد المسيح من كلام هؤلاء واعتراضهم ومن عمل هذه المرأة ؟ نتابع قراءة الفصل الإنجيلي “فعلم يسوع وقال لهم: لماذا تُزعجون المرأة؟ فانها قد صَنعت بي صنيعاً حسناً، فانّ المساكين هم عندكم في كل حين، وأما أنا فلستُ عندكم في كل حين، فانّ هذه اذ أفاضت هذا الطيب على جسدي، انما صنعت ذلك لدفني. الحقّ أقول لكم: انه حيثما كُرزَ بهذا الانجيل في العالم كُلّه يُخبر بما صنعته هذه تذكاراً لها” (متى 26\10). فالسيد المسيح لم يعترض على صنيع هذه المرأة واهتمامها به وتعبيرها عن محبّتها له وتوبتها، بل امتدح صنيعها، ولم يُوبّخها ولم يقل لها: “نعم. هم مُحقّون فيما قالوا… لو انك تبرّعت بثمن هذا الطيب للفقراء والمحتاجين لكان ذلك أفضل من اراقته عليّ، ولكنتُ راضياً عنك أكثر!

أقول لهؤلاء المُعترضين والمُحتجين على ترميم القبر المقدس، وعلى المبلغ الذي صُرف في سبيله، أن الرب يقول لكم : هوذا الفقراء والمساكين عندكم في كل حين وأمامكم في كل يوم وطيلة السنة، تفضلوا بمساعدتهم والإحسان اليهم واطعامهم واكسائهم وايوائهم كما ترغبون وتشاؤون… أما ترميم القبر المقدس مع تكلفته فهو عملٌ يُقام به كل كذا مئات من السنين، كلّما دعت الحاجة العملية والأمنية والتجميلية الى ذلك… وليس عملاً يُقام في كل عام!!
 سؤالي، هل أصحاب هذا الاحتجاج فعلاً يأخذهم الحنان والشفقة والعطف على الفقراء المحتاجين، ويقولون قولهم هذا بدافع محبة الفقراء والاهتمام بسدّ احتياجاتهم؟ أم ان اعتراضهم نابعٌ أصلاً من رفضهم لوجود الكنائس والمزارات والأماكن المقدسة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأحداث هامة جداً في حياة السيد المسيح على الأرض وتدبيره الخلاصي؟
 وماذا يفعل هؤلاء في الواقع اليوميّ من أجل مساعدة الفقراء في محيطهم ومجتمعهم؟ هل يفطن هؤلاء المعترضين على تكلفة ترميم القبر المقدس الى الأعمال والمؤسسات التي ترعاها الكنيسة وتقدمها طيلة الوقت في مجالات عديدة من أجل رعاية الفقراء والمرضى والمحتاجين (مستشفيات، مستوصفات، مدارس، منح دراسية، أعمال خيريّة، مساعدات …الخ) وفي المقابل ماذا يفعلون هم مقابل عمل الكنيسة وتقدماتها؟
 وهل يفطن هؤلاء المُحتجّين البروتستانت الى الملايين والملايين من الدولارات التي تُصرف سنوياً على الحروب وتصنيع الأسلحة والتي يذهب ضحيتها آلاف وآلاف من البشر؟
 هل يفطنون الى الملايين التي تُصرف سنوياً على انتاج الأفلام الإباحية والبرامج الخلاعية التي تُفسد أخلاق شبابنا وشاباتنا وتدمّر مجتمعاتنا المحافظة؟
 هل يفطن هؤلاء على سبيل المثال الى ملايين الأطنان من القمح التي ترميها الولايات المتحدة الأمريكية في البحر سنوياً لكي لا ينخفض سعره، بينما هناك الملايين في أفريقيا يتضوّرون جوعاً ويموتون بسببه؟

هل يعرف هؤلاء كم من ملايين الدولارات تُصرَف حول العالم على الألعاب النارية في ليلة عيد رأس السنة لوحدها فقط؟ هل يفطن هؤلاء الى الملايين التي تُصرَف في الكابريهاتوالديسكوهات وحفلات الملاهي الليلية والمقامرات وووو مع كل ما يُرافقها من سُكر ومجون وعربدة ؟ وماذا عن الكنائس التي تتحول الى مطاعم و فنادق في أوروبا، ألم يلحظوها و تثير غيرتهم الكاذبة؟
هل يفطن هؤلاء الى ملايين الدولارات التي تُنفق على التجارة بالمخدرات وتصنيعها؟
ويضيق بنا المجال لتعداد وذكر كل الأشياء …. ولكن هل سمعنا صوتاً لأحدٍ من هؤلاء المُعترضين المدّعين محبّة للفقراء والمساكين، يقوم بتوجيه الرسائل والانتقادات واللوم الى تلك الجهات المعنية بسبب تبذيرها لكل تلك المليارات على تصنيع الأسلحة والمخدرات والدخان والكحوليات والتجارة بالجنس وووو…، هل “ضاقت عيون” هؤلاء البروتستانت على 4 ملايين دولار جُمعت وخُصّصَت من أجل غاية مقدسة وهدفٍ سامٍ جليل، الذي هو ترميم قبر السيد المسيح بالقدس؟ وهل يعلم هؤلاء البروتستانت كم من المليارات تُصرف سنوياً على انتاج مُستحضرات التجميل والماكياجاتوالاكسسوارات وخلافها؟ هل قامت قائمة هؤلاء وتحرّك الآن ضميرهم وعاطفتهم تجاه الفقراء، وانتقاداتهم للكنيسة عندما جرى تخصيص 4 ملايين دولار لتجميل القبر المقدس القابل الحياة، ليكون بالجمال اللائق به كأقدس مقدساتنا المسيحية؟ ألم يَقُل صاحب المزامير “أحببتُ يا رب جمال بيتك ومقام سُكنى مَجدك” (مز 26: 8)؟ ألم يتنبّأ أشعيا النبي العظيم عن مجد قبر السيد المسيح الذي ضمّ يوماً ما جسدهُ الإلهي قائلاً: “ويكونُ مثواهُ مجيداً” (أشعيا 10:11) ؟ هل مكانٌ بهذه الكرامة والقُدسية والعظمة الإلهية، لا يستحقّ أن يُخصص ويُرصَد له هكذا مبلغ مقابل كل تلك المليارات، ويُترك مهملاً مُعرّضاً للتداعي والانهيار والسقوط، بينما في العالم هناك الملايين تُصرَف على انشاء وإقامة دور خلاعة ولهو ومجون، ومصانع للمشروبات الكحولية، ومصانع للدخان، ومحلات للأراجيل ووو؟

في خاتمة هذا الردّ الموجز، ليس في وسعي أن أقول لهؤلاء المعترضين، بحجّة محبّتهم للفقراء، وادّعائهم العطف على المساكين، سوى قول السيد المسيح لمنتقدي المرأة التي سكبت قاروة الطيب الكثير الثمن على رأسه، متّهمين اياها بالتبذير والاسراف للمال: “انها قد صَنعَت بي صنيعاً حسناً… انّ المساكين هم عندكم في كل حين، وأما أنا فلستُ عندكم في كل حين” (متى 26\10).
فانطلقوا اذن الى فقراء العالم، والى المساكين في محيطكم، وابحثوا عن المحتاجين  في مجتمعكم، وقدّموا لهم حاجتهم من جيوبكم وبيوتكم، من طعام وشراب وكساء ودواء ومأوى …. وساهموا في الحدّ من الفقر والمرض ومعاناة البشر بشكلّ ايجابيّ وعمليّ ملموس، فهم معكم دائماً، وتشاهدونهم أمام عيونكم في كل يوم، وتبصرونهم من حولكم باستمرار، ولديكم الفرصة لتقديم المعونات والمساعدات لهم في كل وقت، فذلك أفضل بكثير من التنظير على صفحات الفيسبوك عن ترميم القبر المقدس ووصف تكلفته “بالتبذير” فأنتم لستم أكثر حُباً للفقراء من المسيح، وأنتم لستم أكثر عطفاً عليهم منه!

“أيها المسيح إنّ قبرك الذي هو يَنبوع قيامتنا قد ظهرَ بالحقيقة حاملاً الحياة، وأبهى من الفردوس، وأجمل من كلّ خدرٍ مُلوكيّ”.

 الأب رومانوس حداد

 

 

 

 

 

 

ترميم القبر المقدس… بين التبذير والتوقير!