...

“اليوم رأس خلاصنا، وظهور السرّ الذي منذ الدّهور” تأمّل في حَدَث البشارة

 

 

 

بُعَيد منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، ظهر النبي إشعياء في أرض إسرائيل وشعب الله آنذاك يعيش واحداً من أردأ أزمنته. الانحراف الديني إلى عبادة الأوثان يزداد، البغض بين الأخوة والانقسامات والانحلال الخلقي مستشرية، خطر السقوط تحت الأمم الغريبة يصبح داهماً، إلى أزمة رجاء بين القلة الباقية من الأمناء. شعب الله إذن مضطرب، بعضه ساقط وبعضه الباقي يائس مستسلم، مرعوب من يوم غضبٍ للرب يراه آتياً. رسالة الله الأولى عبر إشعياء كانت قاسية بلا شك (٦: ٩-١٢)، ولكنها مذيّلة بالرجاء ليفهم إسرائيل إن إلهه يؤدّب ولا ينتقم، ينقّي ولا يُهلك، “ولكن كالبطمة والبلّوطة التي وإن قُطعت فلها ساقٌ يكون ساقه زرعاً مقدَّساً” يقول السيّد الرب (٦: ١٣). يعود الرب فيرسل نبيّه إلى آحاز ملك يهوذا، والأعداء على أبواب أورشليم، ليقول له “احترز واهدأ، لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذَنَبَي هتين الشعلتين المدخنتين بحمو غضب رصين وآرام وابن رمليا”. بهذه الآية يتشدد قلب المؤمن ويتعزّز رجاؤه بالله الحاضر معه، وإن أحاطت به أو قست عليه الأعداء، خطاياه وهجمات الشرير عليه. 

 

هنا نزلت البشارة بالخلاص الكبير، التي فهمها بعض وما فهمها كثيرون، وهي أن “العذراء تلد ابناً وتدعو اسمه عمّانوئيل” (٧: ١٤)، وعمانوئيل معناها أن الله معنا. المعجز في هذه الآية أن العذراء تلد، وأن ولادة العمانوئيل في البشرية تشترط أن تهيأ له هذه رحماً نقياً، عفيفاً من الشهوات. كأننا بالله يقول لخليقته خلاصي الأكبر آت، هذا وعدي وهذا شرطي: سوف اتخذ منكم جسداً يحمل كل أوجاعكم ليشفيها، فهيئوا لي ذاك الرحم النقي. مذذاك صارت الخليقة على موعد مع الفداء الكبير الذي سوف يحصل في الزمان، وإن كان في الذهن القدوس منذ ما قبل الزمان.

 

نأتي هنا إلى زمن تحقيق الموعد. في ناصرة الجليل فتاة صغيرة ولدت من أبوين عاقرين، خارج قوانين الطبيعة، وتربّت في بيت الله تقوتها الملائكة وتنمو على تأمل الكلمة، والله مشتهاها الوحيد. عذراء نفساً وجسداً، محفوظة في الطهر والتقوى حتى ما بعد سكناها في الهيكل، مرضية لدى الله مستعدة لتصبح “رأس خلاصنا”، وإن بغير علمها.

 

يوم أتاها الملاك العظيم “اضطربت من كلامه وفكّرت ما عسى أن تكون هذه التحية” (لوقا ١: ٢٩). هذه التي تربّت على أن لا تكون فيها شهوة إلا فهم كلام الله والخضوع لمقاصده نست ذاتها كلياً. ما كان همّها إلا أن تفهم قول الله. هذه هي النفس النقية التي منها يولد المسيح، منبع البر الفضائل والصلاح. بهذه البساطة وهذا التجرّد، صارت العذراء كلياً في يد الله. هذا بالإضافة إلى اقتران التواضع بالتنبّه، في ردة فعل واحدة، إذ هي اضطربت تواضعاً لأن ملاك الرب يحييها، وبقيت يقظة لكي لا تقع في حيلة من حيَل الشرير. إذذاك بادرها الملاك مطمئناً بقوله “لا تخافي”، لكي لا يستحيل حذرها ريبة فما سوف يقوله لها  هو أبلغ رسائل الله إلى الإنسان حساسية. من يعلم أنه وجد لدى الله نعمة يسكنه السلام، كم بالحري تلك التي استحقّت – وحدها من بين البشر – ملء النعمة؟

 

قلنا فيما سبق إن العذراء تربّت على الكلمة الإلهية التي صارت فيها زرعاً وحيدا”، فهي إذن تعرف الأسفار وتفقه معاني الكلمات. لأجل هذا أفصح لها الملاك قصد الله بكلمات النبي القديمة نفسه، وبالصياغة نفسها. “وها أنت (العذراء) ستحبلين وتلدين ابناً وتدعين اسمه يسوع (عمّانوئيل)”. باستعماله الكلمات القديمة نفسها يقول لها الملاك بلغة الإعلان الإلهي التي تعرفها جيداً، إن ما سوف يتحقق فيها هو ذاك الوعد الإلهي القديم عينه، لأن شرط الله الملازم لوعده أيضاً فيها تحقق. ألم يصفها الملاك بالـ”الممتلئة نعمة” قبلاً؟ ينبغي الانتباه هنا إلى أن هذه النعمة التي امتلأت منها الفتاة مريم لم تأتها بمجرّد اختيار مسبق، إنتقائيٍ، من الله بل لما استأهلته بجهادها، بحفظها لمطلق النقاوة نفساً وجسداً، بارتمائها كلياً، إلى هذا الحد، في حضن الله. وكأننا بالعذراء مريم حققت لله، في الزمان، ملء الزمان التي انتظره ليبعث فيه ابنه الوحيد متجسّدا”، فادياً، معيداً للخليقة بأسرها إلى آخر الأزمان اتصالها الحميم بالخالق. العذراء مريم لم تكن جزأً من مشروع الله الخلاصي وحسب، بل ركناً من أركان تحقيقه. لأجل هذا أعطاها الله أن تكوّن في رحمها الأطهر جسداً – بشرياً – لكلمته ابنه الوحيد، الذي “هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة، فإنه فيه خُلق الكل ما في السماوات وما على الأرض (…) الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل وهو رأس الجسد الكنيسة” (كولوسي ١: ١٥-١٨). العذراء مريم فهمت وعد الرب وشرطه في نبوءة أشعياء، فصارت تنتظر خلاص إسرائيل بشوق، حفظت إلى المنتهى نقاوتها وعفّتها بإزاء كل ما ليس من الله، وكأنها اعتبرت نفسها مسؤولة، ولو كفرد من الخليقة جمعاء، عن إتمام وعد الله. العذراء مريم ما التمست لنفسها شيئاً، لذا اضطربت عند تحية الملاك. فقط قدمت ذاتها لله كلّياً، لذا أجابت الملاك قائلة “هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك” (لوقا ١: ٣٨).

 

في نص النبوءة التي حملها أشعياء، قرابة الثمانية قرون قبل التجسّد، أعطى الله للعذراء الموعودة أن تسمي المولود الذي سوف يجسّد حضور الله في وسط شعبه. والمعروف أن منح الاسم حق حصري للوالدين. أي أن الله أعطى العذراء مريم أن تكون أم ابنه الوحيد في بشريته، كما أنه هو أباه  في لاهوته. هي رعت تكوّنه في رحمها ككل أم، ربّته وسهرت عليه ككل أم، ولكنّها ما فرضت ذاتها عليه في شيء بل “كانت تحفظ كل هذه الأمور في قلبها” (لوقا٢: ٥١). حتى في أمومتها أعطت كل شيء، ولم تطلب إلا ما لله. والدة الإله حفظت نفسها “قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة عذراء”، على حدّ تعبيرنا العقائدي، وهذا التحديد يشمل المعنى الجسدي للعذرية، لا كما يدّعي بعض المتجاوزين والمضلين، ولا يقف عنده. فكما كانت قبل بشارة الملاك لا شهوة فيها إلا لما لله، بقيت لا همّ لها سوى إتمام ما أوكل إليها من أجل تحقيق الخلاص. أكثر من ذلك، فهي بقيت  طيلة حياتها على الأرض حبلى بالمسيح أي إنه بقي مالئاً أحشاءها، وولادتها له لم تنتهي في مغارة بيت لحم بل امتدت إلى ما بعد صعوده إلى السماء. في تقليدنا الشريف أن الكلية القداسة بعد الصعود هي التي حضنت الرسل، والتلاميذ الجدد، “تلد” لهم المسيح كل يوم وما زالت، لتصبح مذذاك وحتى آخر الأزمان صلة الوصل الوثيقة بين الأرض والسماء.

 

في المعركة الأخيرة التي يرويها سفر الرؤيا “ظهرت آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً” (١٢: ١). إنها العذراء مريم التي، من حيث هي في السماء، ستبقى تلد المسيح لطالبيه حتى اليوم الأخير، يوم مجيئه الثاني الظافر المجيد.

الأب نكتاريوس (خيرالله)

25 آذار 2015

 

 

 

 

 

“اليوم رأس خلاصنا، وظهور السرّ الذي منذ الدّهور”

تأمّل في حَدَث البشارة