...

الوداعة والوضاعة!.

 

لا أحد يؤذيك إن لم تؤذِ نفسك (الذّهبيّ الفمّ). ليس في طاقة كائن مَن كان أن يحيل حياتك جحيمًا، ولا في وسعه، مهما فعل، أن يبثّك نعيمًا. الجحيم والنّعيم في يدك، لا في يد سواك. أنت تأخذ ما تعطيه. ما تزرعه إيّاه تحصد. ليست الأمور كما تبدو في الظّاهر. الظّاهر أساسه الباطن. وما بين الظّاهر والباطن ليس، دائمًا، شفّافًا. ساعةً يحكي ظاهرُك باطنَك، وساعة يتوارى باطنُك وراء ظاهرك. تعنف، أحيانًا، لأنّك قلق، خائف، مضطرب؛ وتعنف، أحيانًا أخرى، غيرةً على الحقّ!. تارة، تعطف لترحم؛ وتارة أخرى لتَخدع!. لذا، لا تحكم بحسب الظّاهر!. طالما الإنسان قلب، فكما يكون قلبُك تكون. العارف بمكنونات القلوب هو يحكم. وأنتَ، مفترَض أن تكون عينُك على قلبك!. اعرف نفسك!. نقِّ نواياك!. بالصّدق، باللّطف، بالرّحمة!. لا أثمن من تنقية القلب بالحبّ!. إذ ذاك، يتجلّى داخلُك في ما يبدر عنك. تكون إيّاك!. تعاين ربَّك!. وله تشهد!. أنتم شهود لي، قال!. تقيم في النّور وتشهد للنّور!. بغير ذلك، تقيم في العتمة، وتتمرّغ في الخداع، شيمتك الكذب، وتتعاطى الرّياء!.
مهما كانت ظروفك قاسية، بإمكانك أن تكون في سلام!. السّلام لا يأتي من أوضاع، بل من موقف داخليّ من الأوضاع!. سلام القلب من خارج هذا العالم!. سلامي أُعطيكم، لا كما يعطيكم العالم، قال ربّك!. هذا لا يعني أنّ السّلام يأتي بيسر. الضّيق مؤتاك أوّلاً!. تَصبَّبَ عرقًا كالدّم!. بعد ذلك، صار في سلام!. السّلام كان له بالتّسليم على الصّليب!. والصّليب صار ثابورَ الحبّ!. في يديك أستودع روحي!. بالأوجاع تلدُ المرأة. لكنّها متى ولدت تفرح لأنّ إنسانًا وُلد في العالم!. وبالفرح تنسى ما تكون قد عبرت به!. كلّ نفس ذائقةٌ الموتَ بالسّقوط، والقيامةَ بالصّليب!.
ليس مَن يؤذي سواه قويًّا، بل ضعيف!. يعنف بإزائه لأنّه خائف على نفسه!. يلغيه قبل أن يَلتغي منه!. الخوف على النّفس يدّخر العداوة!. لا أصدقاء للخائف، فقط رفقاء، حلفاء، يستحيلون، بيسر، أعداء!. القويّ لا يستقوي بالفتك بل بالتّسليم، بالحبّ!. لذا لا بالقوّة يقوى بل بالضّعف، إذ بالضّعف، بضعفه، بقبوله الضّعف من أجل يسوع، تحلّ عليه قوّة المسيح!. هذا لا يأتي من يقين مسبَق!. اليقين المسبَق إيحاء ذاتيّ!. هذا يأتي من نموذج، من شهود!. أمّا النّموذج فهو يسوع!. تعلّموا منّي!. وأمّا الشّهود فهم القدّيسون!. ما تراني أعمله اعمله أنت أيضًا!. قوّة الكلمة من صدقيّة مَن تَمثَّلها!. من قوّة الرّوح في مَن اقتناها!. باسم يسوع قمْ وامشِ!. لأنّهم آمنوا بالرّوح والحقّ!. فقط قل كلمة فيبرأ فتاي!. حين يستسلم المرء لضعفه وينزع لرّوح العداوة، لا تعود لكلمة الله في فيه قوّةٌ!. اليقين لاحق!. هذا سرّ حضرة الله، سرّ إفراغه لذاته!. حين أكون ضعيفًا إذ ذاك أكون قويًّا!. هذه، عند النّاس، عثرة وجهالة، لأنّ شيمتَهم استمدادُ قوّتِهم من ذواتهم!. أمّا أنا فقوّتي من عند الرّبّ الّذي صنع السّماء والأرض!. التّوبة هي هذه: على كلمتك أُلقي شبكتي!. على كلمتك!. لأنّي أُسْلِم بما تقول!. لأنّي أريد وأسألك أن تعين عدم إيماني!. لأنّك تعينني وتؤمِّنني، منّةً منك، لأنّك تحبّني!. مِن ذا يأتي التّغييرُ!. أتكلّم بما تهبني!. أقول قولتي وأنت القولة!. أعرف أنّك أنت المتكلِّم!. أجدني متيقِّنًا من أنّ الكلمة منك!. يقيني أنت، وأنا توما!. أصرخ ضعفي في قوّتك!. في جنبِك!. وأحدّث، عنك، أنّك أنت إلهي، وأنا تراب ورماد!. كنتُ قد سمعتُك سَمْعَ الأذن، أمّا الآن فعيني قد رأتك (أيّوب)!.
الودعاء صُنعُ ربِّهم!. سحْقًا يسحق كبرياءهم بالشّياطين، بالنّاس، بقوى هذا الدّهر!. استيقِظْ، أيوبُ، وقمْ من بين الأموات ليضيء لك المسيح!. هذا المرتجى!. لهذا بُرِئْتَ!. لا هَمَّ خطاياك!. خطاياك لإذلالك بعدما استكبرتَ بإيحاءات تأليه ذاتك، بالحيّة ونظيرها!. لا علاقة لخطاياك بأخلاقك!. الخطايا أخلاق وانعدام أخلاق!. الأمران سيّان ما دمت إلى نفسك وما انعطفت صوب ربّك بالرّوح والحقّ!. الشّعوب كلّها تصطنع أخلاقيّاتها!. ربّك فوق الأخلاق، أو ما تحسبه أخلاقًا!. الأخلاق، عند ربّك، من الخَلْق!. فإن تعاطيت ربَّك خالقًا، وذاتَك ترابًا ورمادًا، تخالقت، أي تفاعلت، ومبدعك خالقًا، وبتّ إليه وهو إليك، وسموت به إليه!. الخلْقُ كلّهم مدعوّون!. الجميع أخطأوا!. جئتُ لأدعو خطأة!. الودعاء هم القائمون في سكون ربّهم، السّاكنُ ربُّهم فيهم!. الهادئون بطبعهم ليسوا ودعاء!. لا يصنع المزاج وداعة!. متى بلغ المرء حدود الصّمت بإزاء الإله الكلمة، إذ ذاك ودع واستودع ربَّه روحَه، فالصّمتُ أبلغ الكلمة، ولغة الدّهر الآتي، منذ الآن!.
مَن لا يلتمس الوداعة، بوعي وثبات، يقع، بيسر، في الوضاعة!. وللوضاعة مسار!. الوضعاء حقيرو النّفوس مهما بدا مظهرهم برّاقًا، وحُسبوا مقتدرين، واستبانوا جذّابين!. هؤلاء، بعامّة، هم نماذج القوم النّاجحين في هذا الدّهر لنفوسهم الحيّالة!. يأتونك شرسين، ويأتونك مهذَّبين!. يأتونك أصحابَ سلطان، ويأتونك ممالقين تافهين!. خبراء في المداهنة!. حسّاد!. مراؤون!. تظنّهم يودّونك، ولا يَوَدّون إلاّ أنفسهم!. بيسر يُقبلون عليك وبيسر يُدبرون عنك!. لا تعرف ما يُضمرون!. في نفوسهم كثافة لا طاقة لك على اختراقها!. يستعملونك استعمالاً، ومتى استنفدوك غادروك!. أنت لهم شيء: جسد برسم الاستهلاك، عقل برسم الاستغلال، مصلحة، ولو راقية، برسم التّداول!. والذّكاء؟!. خير ما تتلبّس به الوضاعة لتخدع وتؤذي!. الذّكيّ، إلى نفس تفهة، إنسان شيطانيّ!. ثمّة مَن يقتلهم ذكاؤهم، وثمّة مَن تقتلهم قلّة عقلهم!. كلاهما غبيّ!. الغباء من قلب لا يحبّ!. من نفس دوديّة!. من وجود يزدرد ذاته!. يظنّ أنّه يغتذي بأرواح الآخرين ولحومهم، وما يغتذي إلاّ بشهوةٍ نهمةٍ إلى ملء الخواء!. كلّ العدم يتفجّر، مذاقًا، من حبّ الذّات!.
المسحوقون هم الّذين لا يستطيعون أن يؤذوا أحدًا، لأنّ نفوسهم لا تُضمر شرًّا!. وإن آذوا، متى آذوا، فلأنّهم عفويّون ولا يعلمون!. ومتى صحوا إلى أنّ ثمّة مَن يتألّم بسببهم، لأنّهم جرحوه، على غير دراية منهم، بكوا بكاء مرًّا!. لا يفهمون أحابيل الخطيئة!. ورغم ذلك فيهم التواء!. أطفال فقدوا البراءة في المسرى لأنّ الحيّة لدغتهم، ولكنّهم أطفال!. باقون أطفالاً!. في خضم الألم، يستفيق الحقّ فيهم!. يَفيضون حبًّا يغسل كياناتهم المأزومة!. يعكسون، إذ ذاك، نورًا في ظلمةِ طبيعتهم السّاقطة!. يعانون السّقوط، طبعًا؛ مع ذلك، فيهم تشوّف إلى اللَّطَف، إلى الأصالة، إلى ربّهم!. لا يعرفون الخباثة!. بالأكثر سذّج!. غيرهم يستغبيهم، وهم على ولودة!. يلهون كصغار القطط!. يقلبون الدّنيا، يَجرحون ويُحرِجون وما يعلمون!. كان الأب الياس مرقص، نفعنا الله بصلاته، يقول عن الإنسان إنّه وُلد ليلعب ويلهو!. في بيت أبيه منازل كثيرة وحدائق غنّاء!. لم يوجد ليَحمل همًّا!. ربُّه اهتمّ وبسط الدّنيا ملهى فرحٍ له!. فقط الخطيئة جرّحت الفرح، وما ألغته!. لذا حنين الإنسان إلى ربّه هو، رغم كلّ شيء، في جبّ أوساخ!. غريبٌ واقعُ إنسانِ السّقوط!. ثمّة مَن مالوا إلى الشّرّ في مفاسدهم، وثمّة مَن مالوا إلى الأحلاميّة السّاذجة!. كيف يقيم الله في مَن تغرّبوا عنه وتمرّغوا في الحمأة، وهم العابثون؟!. لا شكّ أنّ، في ذلك، إفراغًا للذّات عظيمًا!.
تبقى التماعات ربّك في نفوس شتّى!. كأنّ بباريك تركَ من جمالاته وإحساناته ولطفِه طعمًا يصطاد به كثرةً!. أنت بإزاء صائدِ نفوسٍ، له، في المودّات، باعٌ لا يوصف ولا أطول!. جعل الخطيئة، على إيلامها، سبيلاً إلى الارتداد، بالتّوبة، إلاّ الخباثة تُفتّتُ التّوقَ إليه!. الوداعة، في هذا الدّهر، لغزٌ، لأنّ ما لربّك فيها مبلغًا إلى نفوس تتوق جراحُها إلى طبيب النّفوس والأجساد!. تمجّ الحقارةَ ويوجعها التّفه في أرض الأحياء، فنلقاها، في غابة هذا العالم، جملةَ قدّيسين تآكلهم البَرَصُ، فأقاموا، على تشويهٍ، خارجَ الأسوار، ينتظرون الآتي ليدعوهم إلى البرء!.
أنا قلت يا ربّ ارحمني واشف نفسي لأنّي قد خطئت إليك!.

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، أوّل شباط2015

 

 

الوداعة والوضاعة!.