...

المسيحيّة في بلاد الشام

كانت بادية الشام، عندما دخلتها الإمبراطوريّة الرومانيّة، يقطنها العديد من الشعوب، ومنهم العرب. وقد تعاطى الحضر (أهل المدن) منهم الزراعة والتجارة، فيما انصرف أهل الوَبر (أهل البادية) إلى رعاية المواشي. واشتُهروا بأنّهم كانوا يسلكون مسلك الغزو وشنّ الغارات والقرصنة والسلب والنهب. لذا اعتبرهم الرومان، منذ بداية احتلالهم، خطرًا على البلاد، فاستمالوا شيوخ قبائلهم، وسلّطوا بعضهم على قسم من بادية الشام على أنّهم شيوخ أو ملوك. أمّا الديانة التي كانت سائدة قبل ظهور المسيحيّة فكانت مزيجًا من أديان وثنيّة. دونكم في هذه العجالة قطوف من الروايات عن المسيحيّة العربيّة في بلاد الشام قبل الإسلام.

أحصى المؤرّخ اليونانيّ سوزومينس بلاد العرب في جملة مَن اعتنق المسيحيّة في ذلك الزمن، فقال: «من المسيحيّين مَن كانوا يسكنون بلاد العرب، ومصر، وجهات من آسيا وسوريا». من الراجح أن تكون المسيحيّة وصلت إلى شمال الجزيرة العربيّة من جهة بادية الشام، حيث انتشر الرسل بعد العنصرة المقدّسة، كما ورد في سفر أعمال الرسل (٢، ٧-١١؛ ٩، ١٩)، «ولا صعدتُ إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقتُ إلى العربيّة، ثمّ رجعتُ أيضًا إلى دمشق» (غلاطية ١، ١٧). يظهر من كلام القدّيس بولس الرسول أنّ المسيحيّة دخلت أولاً منطقة حوران، وبُصرى بالتحديد، كما تشير إلى ذلك التقاليد القديمة التي تناقلها الكتبة اليونان والسريان، ثمّ العرب المسلمون من بعدهم. ففي الروايات التي تداولها الكتبة المسيحيّون عن الرسل «إنّ بعضهم تلمذوا العرب، وخصّوا بهم عرب بادية الشام وحوران». أمّا المؤرخ الإسلاميّ المقريزي فروى في كتابه «الخطط والآثار»، عن القدّيس متّى الإنجيليّ أنّه «سار إلى فلسطين وصور وصيدا وبُصرى».

من أهمّ القبائل العربيّة التي استوطنت، قبل الإسلام، بلاد الشام قبيلة غسّان التي تؤكّد المصادر العربيّة على أنّهم استوطنوا الشام أواخر القرن الخامس الميلاديّ. ولـمّا قويت شوكتهم في بادية الشام، عقد البيزنطيّون لكبيرهم الولاية على تلك الأطراف، ليردّوا عنهم غارات العرب المناذرة، عمّال الفرس. وأصبح الأمراء الغساسنة يحكمون الحكم الشرعيّ منذ بداية القرن السادس الميلاديّ (حوالى مائة عام قبل ظهور الإسلام). وقد مدح الشاعر العربيّ النابغة الذبياني ملوكهم، وأثنى على «دينهم القويم»، وذكر يوم الشعانين، كما رثا ملكهم النعمان بن الحارث.

ورد في السيرة النبويّة أنّ وفدًا من بني تغلب قدم إلى المدينة، عام ٩ للهجرة، وعليهم صلبان من الذهب، وعقدوا صلحًا مع محمّد، يبقون فيه بموجبه على دينهم شرط ألاّ يعمّدوا أولادهم. لكنّ تمسّك تغلب بمسيحيّتها، جعلها لا تتقيّد بالشرط الذي فُرض عليهم، واستمروا في تعميد أولادهم. كما تحدّثت المصادر العربيّة عن مسيحيّة غسّان وعن الكنائس في بلاد الغساسنة مثل كنيسة القدّيس سرجيوس بالجابية وكنيسة بُصرى المشهورة. ولنا في شهادة المؤرّخ الإسلاميّ البلاذري على بقاء المسيحيّة في غسّان زمن الفتوحات الإسلاميّة ما ذكره عن فتوح الشام، أنّ خالد بن الوليد القائد العسكريّ، المعروف بشدّته، قال: «قد لجأ إلى تقتيل الغساسنة بمرج راهط في يوم فصحهم».

يتّضح أنّ المسيحيّة العربيّة لم تكن مهشّمة بالشام في القرن الرابع الميلاديّ، بل كان لأساقفة العرب حضور ملموس على الصعيد الدينيّ. ومن بين المراكز الأسقفيّة مركز في شرق القدس، وآخر في جهة دمشق، وثالث في جهة بعلبك. ولا يُعرف شيء كثير عن المركز بجهة دمشق سوى أنّ أسقفه كان من ضمن الحاضرين في مجمع خلقيدونية (٤٥١) وكان يوقّع باسم «أسقف العرب». وورد لدى أحد المؤرّخين المعاصرين أنّ مطران بُصرى وحده كان رئيسًا على ثلاثة وثلاثين أسقفًا. وكان بعضهم يتنقّلون مع القبائل البدويّة فيسكنون الخيم. وقد وقّعوا مرّات عدّة أعمال المجامع بالتواقيع الآتية: «فلان أسقف أهل الوبَر» أو «فلان أسقف العرب البادية».

ما يؤكّد انتشار المسيحيّة في بادية العرب أنّ أول قياصرة الرومان المسيحيّين، فيلبّس العربيّ (٢٤٤-٢٤٩)، قد خرج منها. وقد شهدت المسيحيّة في عهده سلامًا مؤقّتًا، كما شُيّدت الكنائس العديدة في أنحاء حوران والجولان والبلقاء. وقد عثر البحاثة الذين جابوا تلك المنطقة على بقايا نقوش توحيديّة، تحتوي على رموز مسيحيّة منها: الصليب في أشكال مختلفة، وسعف النخيل، والسمكة… ومنها شعارات منقوشة تقول: «الله واحد»، أو «قد انتصر المسيح»، أو «المسيح إلهٌ هو». وبين تلك الكتابات كتابة عربيّة وبأحرف عربيّة، يرقى تاريخها إلى ما قبل الإسلام بخمسين سنة، وُجدت في حرّان، وجاء فيها ذكر مشهد أقيم تذكارًا للقدّيس يوحنّا المعمدان، على يد أحد شيوخ القبائل العربيّة، ويدعى شراحيل.

يروي المؤرّخ أفسابيوس القيصريّ أنّ فيلبّس العربيّ كان مسيحيًّا من بُصرى. تجنّد في جيوش الرومان إلى أن تولّى منصب كبير رؤساء الجند… وقد مرّ في أنطاكية سنة ٢٤٤ يوم «سبت النور»، وجاء الكنيسة للصلاة استعدادًا للفصح. فاضطرّه أسقف المدينة آنذاك، بابيلاس إلى القيام مع التائبين، وذلك بعد الاعتراف بخطاياه. ولا سيّما أنّه كان قد قتل سلفه غرديانوس الثالث. فخضع الملك للعقوبة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المسيحيّة في بلاد الشام