...

الله صار إنسانًا لكي يجعل الإنسان إلهًا

 

في الأحد الثاني من الصوم أتت الينا الكنيسة بصورة قديس عاش في القرن الرابع عشر وكان راهبا في جبل آثوس اليونان، ثم صار بعد ذلك رئيس أساقفة مدينة تسالونيكي، هو القديس غريغوريوس التسالونيكي المعروف ايضا بغريغوريوس بالاماس، وكان هذا اسم عائلته. كان أبوه عضوا في مجلس الشيوخ في بيزنطية، وكان قريبا من الامبراطور. كانت العائلة تقيّة وتعرف صلاة القلب او صلاة يسوع.

دخل غريغوريوس الأسقف في نضال مرير مع أناس متأثرين بتعاليم الغرب كتبوا في القسطنطينية ان نعمة الله مخلوقة، اي انها شيء يرسله الله إلينا. تصدّى لهم غريغوريوس مبيّنًا أن نعمة الله غير مخلوقة، أنها من الله ذاته. فإذا كانت الفضائل مخلوقة، فنحن لا نملك شيئا اذ انها تزول مثل كل المخلوقات. ولكن اذا كانت نعمة الله أزلية غير مخلوقة، يكون الله معطيا إيانا حياته نفسها اذ نسعى اليه. في الجهاد الروحيّ، الله يقرّب ذاته فينا فنصبح بفعل نعمته هذه متصلين به ومتألهين. الكنيسة الشرقية تقول ان الانسان يصبح إلها: “الله صار انسانا لكي يجعل الانسان إلها” (القديس إيريناوس).

“أنا قلت انكم آلهة” (يوحنا١٠: ٣٤) وذلك لأن الله ينزل نفسه اليكم في ذاته، في قوّته، وهذه القوة التي فيكم تجعلكم قادرين على أن تصبحوا آلهة. ما علاقة هذا بالصوم؟

الانسان له خياران: إما ان يستولي على الناس ويُخضعهم لإرادته، وأن يتحكّم ويتملّك ويسيطر، وإما أن يكون فقيرا الى ربه، مجردا عن فكرة الاستبداد والكبرياء ومحوّلا الى ربّه بكليته، اي انه يترك الملكية ليصبح قربانا. فإذا جعل نفسه قربانا لله، فالله به غالب. المهم أن نقتني روحانية الفقراء الى ربهم في كل ما نقوم به. هذا هو معنى الصوم. وما يقوله لنا القديس غريغوريوس بالاماس هو أن الانسان إن افتقر الى ربه بكل عقله وفكره وطاقته، فالله يتنزّل اليه بنعمته. لهذا جاء ابن الله.

الله نور بطبيعته لا يُدنى منه، ولكنه جعل نفسه مدنوّا إليه في المسيح يسوع. به لنا من الله في القلب نور غير مخلوق. الله تنازل الينا ورفعنا اليه ونحن به ملتصقون. انه مقذوف فينا، مسكوب في قلوبنا، فحياته حياتنا وحياتنا حياته. نحن في اتّحاد متين معه، ولا شيء ينزع من نفوسنا نعمة الله سوى الخطيئة. ولهذا يُتلى علينا الفصل الإنجيلي المحدد للأحد الثاني من الصوم، وهو يتحدث عن غفران المسيح لخلاص الناس: شفى المخلّع وغفر له خطيئته. قُرئ علينا هذا لكي تقول لنا الكنيسة بصورة غير مباشرة ان الغفران يسكبه الله في النفوس نعمة عميقة غير مخلوقة، وأن الغفران نور، وأن هذا النور اذا جاءك فإنما أنت تتجلّى كأنك على ثابور جديد. ولهذا كانت بيوتنا وشوارعنا ومكاتبنا ومحلاتنا أماكن نتجلّى بها، نظهر بها آلهة اذ نأخذ إليها الكنيسة جسد المسيح الممجد.

اذا أدركنا معنى ذلك، ننسى كل شيء آخر ونروّض انفسنا بالتوبة حتى نصير قرابين حيّة للإله الحيّ فنشع نورا وحياة.

جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما

(جبل لبنان)

عن “رعيّتي”، العدد 11، الأحد 16 آذار ٢٠١٤